[x] اغلاق
لذكرى رحيل الفاضلة نهاد عزّام - دُر (أم رامز) قرعت لها الحياة أجراس البهجة
21/6/2024 11:38

لذكرى رحيل الفاضلة نهاد عزّام - دُر (أم رامز)

قرعت لها الحياة أجراس البهجة

بقلم: مارون سامي عزّام

دائمًا القدَر حاضرًا معنا في كل وقتٍ ولحظةٍ، يبقى غافلًا عنّا طوال السنين، ليستيقظ من سباته في غير موعده، يُذكِّرنا أنه سلطان علينا، نعيش تحت سطوته، إلى أن تمرَّد القدر فجأة في ذلك النهار على أجواء الفرح، مُنزِلًا علينا صخرة الحزن الثّقيلة، برحيل الفاضلة نهاد عزام - در أم رامز بدون استئذان، فارتحلت باسطًا الموت عليها ظلمته القاهرة.

لم تكن الرّاحلة امرأة عاديَّة، إذ تمتّعت بشخصيَّة قديرة واستثنائيَّة، متصالحة مع ذاتها، عاشت يوميّاتها وفق ميولها، وليس كما يُملي عليها العمر، فاستغلَّت الرّاحلة هذه الميزة إلى أبعد حدود، جاعلةً من شيخوختها غطاءً ظاهريًّا لم يضايقها، بل احترمت هذه المرحلة العمريَّة بهيبتها، لم تدعها تفرض عليها قيود السِن... لم تسمح لشيخوختها أن تصد عنها النسمات الشبابيَة المنعشة لمعنوياتها... أحبَت الاختلاط بالناس، عايشت لحظاتهم الحلوة والمُرَّة، متابعةً خطوات البهجة، سائرةً على خطاها بثبات.

بعد رحيل زوجها الفاضل يوسف در (أبو رامز)، عاشت في منزلها لوحدها، ولكن فضولها دفعها لتحوِّله إلى مكان تتسلّى فيه، كاسرةً ضجرها بالمشاهدة أو القراءة، استعانت بأحفادها للتعرُّف على هويَّة الإعلام الجديد الذي بات مسلاتها، باستخدامها لوسائطه المتعدِّدة بسلاسة. تواصلت بشكل دائم مع كريمتها حنان عزّام وعائلتها التي تعيش في الولايات المتّحدة بالصّوت والصّورة، مستخدمة ميزة مكالمة الفيديو في الواتس أب، يعني كان عقلها مطواعًا لاستيعاب هذه التّقنيّات والتأقلم معها بسهولة. 

عائلة نجلها رامز كانت تحُوم حول رعايتها، سكنَت في محيطها، وكريماتها كُنَّ دائمًا يتعاملن معها ليس كوالدتهن البالغة، بل كرفيقةٍ واعيةٍ راشدةٍ، كصديقةٍ قمن بزيارتها يوميًّا، ليس لخدمتها بل ليتبادلن معها الحديث اليومي الطّريف، منحتهن الرّاحلة شعُورًا أنَّها قريبة من مفاهيمهنّ العصريَّة والحديثة، القائمة على التَّطوُّر اليومي المتنوِّع، الذي متَّعها كثيرًا.

استمدَّت أم رامز قوَّة الإرادة من انصهار تفكيرها مع حيويّتها، فوَصَمَت سِجِلها اليومي ببصمة شجاعتها، وكانت تزور كريماتها في كل وقتٍ، لم تُعِقها تقلُّبات الطّقس... لم تعِق الأوقات حركتها يومًا، لأنها تحدَّتها بإصرار كبير، طوَّعتها لإمرتها، لم يكُن المكان المتاح يشغل بالها، المهم أن تنجِز مهامها العائليَّة تجاه محبيها... قادت سيّارتها وهي في عزّ شيخوختها بكل ثقةٍ وليونة، وكأنها تنقَّلت في منزل متحرِّك، رعته بعناية فائقة، فزادها استخدامها للسيّارة، عزيمةً وتفاؤلًا. 

محطَّتها الأسبوعيَّة الثّابتة كانت زيارة والدتي أطال الله بعمرها، وتحديدًا أيام الآحاد، أدارت دفَّة الحديث بصورة لبقة جدًّا، كان كلامها منمَّقًا ومتَّزِنًا، فيه طرافة رزينة. أناقتها هي أيقونتها التي حافظت عليها طوال عمرها... الذَّوق واللياقة جعلتهما دستورًا لسلوكها... حافظَت على أناقة منزلها، اعتنت شخصيًّا بحديقتها كاعتنائها بنفسها، اهتمَّت بزراعة وريّ الأزهار. أزهرَت أم رامز بالهمَّة، استنشقت رحيق سعادتها من أديم الأرض التي عشِقتها، وباتت ساحة اهتماماتها. 

ذات مرة زرتها وهي متوعكة، فلم تشكُو ألمًا، بل قاومته، لثقتها أنها ستعود لممارسة نشاطاتها الاعتياديَّة، وكان لها ما أرادت، مستمرّةً في مزاولة سلسلة فعّالياتها وأنشطتها الدِّينيّة، خاصّة خلال الشّهر المريميّ، يعني إشغال نفسها كان درّة تاجها، فتسابقت مع الوقت الذي نافسها على تسارع ساعات النّهار، فلم يستطِع أن ينال من إصرارها وصلابتها.

شدَّة إيمانها والمواظبة على الصّلوات والمناسبات الرّوحيّة المختلفة، أسَّست بنيتها الشَّخصيَّة المتينة، مزيلةً عثرات الظُّروف. أعتبرها ركنًا أساسيًّا من طائفة اللاتين، فعاشت بين رعيّتها، عرفت واجباتها، عاملتهم كأبنائها، شاركتهم في شتّى الفعّاليات الكنسيَّة، وفي الأعياد على مدار السّنة، تعاملت مع الكهنة بمنتهى الرُّقيّ، نذرت حياتها لخدمة بيت الرّب. 

لقَّبتها بلقب "السيدة الأولى بالواجبات"، وتحديدًا الاجتماعيَّة، إذ لم تُقصِّر تجاه أي شخص، هذه الانشغالات جعلَت كل من حولها يحترمها ويُقدِّر مجهودها ومساهماتها رغم كِبَر سنَّها. عندما كانت تسمع بوجود رحلة ما، كانت أول المُسجِّلين وآخر الرّافضين، فكان وجهها يتجلّى انبساطًا، وبالنسبة لها هذه المشاوير تفُوقُ أي ترفيه آخر.

أينما حلَّت نثرت حول المتواجدين لآلئ وقارها، فنالت منهم التقدير الذي تستحقّه. يمكن القول إنها امرأة فوق العادة... جعلت الحياة تتكيَّف مع شروطها وليس العكس، لكونها سائدة على الفرح... راغبة في المرح، الحزن بالنسبة لها حالة عابرة، آنيَّة، يجب ألّا يطغى على الإنسان كثيرًا، لأنها أحبّت إشراقة شمس الأمل، كرهت عتمة اليأس. 

ترك رحيل أم رامز أثرًا كبيرًا في حياتنا، ما زال ظل وجودها يرافق ذاكرتنا، ذكرياتها معنا حاضرة دائمًا في كل حين... لقد علَّمتنا أهميَّة تكريس اليوم الذي نعيشه لتنشيط حركتنا... لترميم آلة عملنا... علَّمَتنا الاستيقاظ من فراش الكسل، كي نستقبل نور الصّباح بابتسامة تسامُح تجاه الآخرين. ستبقى أم رامز رمزًا حقيقيًّا للطّاقة الإيجابيَّة، حاملَةً معها تاريخًا مُشرِّفًا بالوفاء للماضي الذي عايشت تفاصيله، لذلك حـمَلها الرَّب يسوع بهدوء على كفوف الرّاحة الأبديَّة، وهي تعلم أنها غادرت الحياة راضيةً عن نفسها.  

May be an image of 1 person and smiling