[x] اغلاق
بحرب الكبار.. شو ذنب الطفولة؟
5/5/2010 10:18

*لم يكن في المكان إلا ذلك الضوء على خشبة المسرح، عندما بدأت الحكاية ..
دخلوا بأثوابهم الرمادية النحيلة، يحملون الفرح كلّه في أجسادٍ طريّة صغيرة، ترقص وتجري بكلّ اتّجاه. يأخذهم إيقاع الموسيقا إلى دنيا، وحدهم ما يزالون قادرين على إيجادها، دنيا اللّعب التي لم يعد يفهمها الكبار.
وجاءت الحرب .. فكبروا بسرعة .. كبروا أكثر مما يجب.
وكانت حكاية حربٍ حمقاء، حصدت من البؤس ما يكفي لأن يبكي كلّ إنسانٍ دمعة واحدة، فيغرق العالم.
أولادٌ في حملة خلاص، مرّوا من هنا، من على خشبة مسرحٍ في حيفا، خرجوا من صفحات تاريخ حربٍ حدثت في بولندا، من سطور قصيدةٍ حزينة كتبها بْريخت قبل سبعين عامًا.
أطفال شُرّدوا عن بيوتهم وأحبّائهم في تلك الأيام، ما تزال ذاكرة البشريّة تحتفظ لهم ببعض الحبّ. بحثوا عن الأمان في بلادٍ ملأتها الجثث وضجيج القنابل، فلم يعثروا في النهاية إلا على ذلك الخيط الشفاف الذي جمعهم سويّة، وجعل منهم أسْرة استثنائية.
التقيتهم ليلة أمس ..
طفولتهم، وسط الحرب، كانت ما تزال حيّة، اختبأتْ في جيوبهم الصغيرة، رأيتها مصبوغة بكلّ ألوان الخوف.
فتاة منهم، أجلسَتْهم أرضًا، كأنهم تلاميذ في مدرسة لها جرسٌ ولوح كتابة، وعلّمتهم كلمة “سلام”، فكتبوها بحجارتهم على الأرض.
(هل شعرتَ أيّها العالم الرذيل بالصّفعة؟)
وجد أحدهم طبلاً، لكنّه خشيَ اللّعب فيه، لئلا يسمع الأعداء دويّه فيجدونهم ويأخذونهم، لا يدري إلى أين.
(هل تدرك أيّها العالم، أيّ وجهٍ بتّ تملك؟)
التقوا كلبًا صغيرًا، فعلّقوا في رقبته ورقةً مكتوبًا عليها رجاءً بالإنقاذ. حمّلوه رسالتهم إلى العالم، فصار الكلب طريقا آخر للخلاص.
(يا أيّها العالم الإنسانيّ، هل بلغك النداء؟)
وعندما جاعوا، جلب أحدهم كيس طحين. تجمّعوا بلهفة حول الحبّات البيضاء اللذيذة. وبعد أن فهموا أنْ لا شيء هنا سيتحوّل إلى خبز، فليس لديهم ماء، صمتتْ وجوههم الجائعة للحظات قليلة، وما لبث الطحين أن انقلب بين أيديهم إلى لعبة أخرى ..
هرب الجوع من أمام ضحكاتهم الشقيّة، هرب من أمامهم كما تناثر الطحين في الهواء.
يا أطفال الحروب، علّمونا – نحن الكبار – علّمونا الفرح!
ماريّا، طفلة كبرت في الهرب، كبرت مع آلة تصويرها ومع الأولاد، وأحبّت أحدهم.
لا لم تعد طفلة. إنها الآن أنثى، ولها من الأحلام وعدًا، ومن الأمل أكثر.
قصّتها ليست إلا خليطًا من صور فوتوغرافية، وقليلاً من الموسيقا، كانت كافية لأن تستثمر من الذاكرة مسرحًا وفرقةً جميلة تحترف الرقص، لسرد أحداث تلك السنوات، التي لا تبعد عن أيّامنا هذه إلا مسافة فارقٍ رقميّ.
* * *
عن قصيدة “أولاد في حملة خلاص” للشاعر الألماني برتولت بريخت، تُرجم العمل، لتقدّمه فرقة سلمى للفنون الاستعراضية، على مسرح الأوديتوريوم في حيفا، تحت عنوان “صرخة ماريّا”.
ومن الغريب ذكره، أن الجمهور المكوّن من أكثر من ألف شخص، لم يصفّق بتاتا خلال فترة العرض، حتى اُعلنت النهاية، عندها فقط انهمر التصفيق.
كان جمهورًا ساكنًا على غير العادة، وكان عرضًا فنّيا .. فوق العادة.
ما زالت لحظات النهاية تعبر رأسي، كان لها وقع خاص.
أدهشتني الرقصة الأخيرة التي تكفّلت بإعادة سرد الحكاية منذ البداية، في مشاهد سريعة ومتداخلة. ما رأيناه كان دراما استعراضية جسّدت شريطًا مصوّرًا، يحوي ذكريات ماريا، وكل ما اختزنته آلة تصويرها طوال عمر كامل.
في النهاية، اختلطت المشاهد كلّها في صورة واحدة وفريدة، وتلاشت الحدود الزمنية بينها، تماما كما يحدث للصور التي تختلط في ذاكرتنا بعد مرور سنين ..
كانت خاتمة العرض تشبه عمل عقل إنسان يتذكّر!
يا أيّها العالم.. تذكّر!