[x] اغلاق
أربعون عاما من الغياب وحبك في القلوب خالد يا أبا خالد
1/10/2010 8:18

محمود سعيد الموسى (أبو العبد) من دير الأسد، أبناؤه يحملون أسماء:
عبد الناصر، جمال، عبد الحكيم، عبد السلام، هدى، ميسلون، بدر، انتصار
التقاه: زياد شليوط

تمر السنوات، وبدل أن يخمد لهيب محبة الزعيم والقائد العربي جمال عبد الناصر في قلوب العرب، نراه يستعر بقوة ويلتهب مع اقتراب ذكرى وفاته السنوية أو ذكرى ثورة 23 يوليو، خاصة وأن العرب يفتقدون اليوم الى زعيم مثله، فهذا يتمنى أن يأتي القدر بمثله، وآخر يعتقد أننا نحتاج الى 100 عبد الناصر حتى نصلح حال أمتنا، ويبقى حب عبد الناصر دفئا للقلوب المكسورة التي عاشت على حلم الثورة والوحدة العربية وما زالت تنتظر عودة ناصر.
عندما اقترح علي الصديق الأستاذ سميح أسدي من قرية دير الأسد الجليلية أن ألتقي أحد عشاق عبد الناصر، لم أحسب أنني سألتقي انسانا وصلت به درجة العشق لعبد الناصر أن يحتار اذا ما سألوه ما بين حب النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وبين حب القائد العظيم جمال عبد الناصر، كما أخبرني، وكم آلمني شخصيا أن هذا الانسان فقد بصره قبل شهرين، خاصة وهو يردد أثناء لقائنا، ليتني التقيتك قبل أن أفقد بصري.. لقد أحببتك جدا وعشت كل كلمة وأنا أقرأ كتابك ( ويقصد كتابي "عبد الناصر بعيون فلسطينية").
وصلت برفقة صديقي ومرافقي الأستاذ سميح الى بيت السيد محمود سعيد صالح علي محمد الموسى (أبو العبد)، وما أن سمع نداءنا حتى وقف عند الباب مرحبا وأخذني بين أحضانه يغمرني بحرارة استقباله وكلماته التي تشير الى محبتنا المشترك لعبد الناصر، وكأننا نعرف بعض من سنوات مع أن هذا هو اللقاء الأول لي به. وقادنا مضيفنا الى داخل البيت، وانطلاق يتكلم قبل أن نسأله، وتركته يقول ما يريد حيث بدأ بالحديث عن ثقافته التي اكتسبها مع أنه لم يكمل تعليمه العالي، لكن حديثه يدل على انسان مثقف بكل معنى الكلمة، فهو يحدثك في السياسة والأدب والفن وغيرها، فقد قرأ مئات الكتب، فيقول أنه اكتسب ثقافته من اذاعة "صوت العرب" أيام كانت صوتا للعرب، في عهد الزعيم عبد الناصر، وعندما كان يديرها ويقدم برامجها الاذاعي المشهور أحمد سعيد، وزملاؤه عبد الهادي البكار (المعلق السياسي)، توفيق حسن، نظير عقل وغيرهم، وكان يسمع مقال "بصراحة" لمحمد حسنين هيكل عبر الاذاعة ويضيف أبو العبد أنه كبر مع "صوت العرب" ونمت ثقافته، وأخذ يقرأ الكتب السياسية والأدبية، وكان الكتاب الأول الذي اقتناه من مكتبة عربية في مدينة يافا، وقرأه هو رواية احسان عبد القدوس "في بيتنا رجل"، وكان لاه من العمر 16 عاما، حيث كان من الطلاب الأوائل في صفه من بين 57 طالبا، واستمر في قراءة الكتب حيث اشترك في المكتبة وشرع يقرأ بينما كانوا في البيت يعيرونه!! وبعد احتلال عام 1967 انفتحت الطريق للثقافة العربية عبر المكتبات الفلسطينية، وحصل على كتاب "أسرار معركة بور سعيد" من بين الكتب التي يذكرها ويحتفظ بها. ويقوم أبو العبد الى مكتبته ويستعرض لك الكتب حسب فروعها ومواضيعها، وصور عبد الناصر على طاولته، ويردف " ما زلت مواظبا على القراءة رغم ما حصل لنظري" ويستعمل الزجاجة المكبرة حيث تقتصر قراءاته حاليا على "القرآن الكريم" لكنه يلح على صديقه/ مرافقي أن يحضر له أحد الكتب عن الناصرية ليقرأه. ومما آلم أبي العبد أن العرب في الدول العربية كانوا ينظرون الينا على أننا "خون" لأننا بقينا في وطننا ولم نخرج، لكن اليوم تغيرت الصورة والفضل في هذا يعود، كما يرى، الى قيادات سياسية وشخصيات وطنية وعلى رأسها المفكر د. عزمي بشارة والشيخ رائد صلاح والمطران عطا لله حنا وغيرهم.
محمود الموسى من مواليد عام 1944 وللدقة في الأول من أيلول ويضحك ساخرا ويقول أي عندما احتل هتلر بولونيا، ومع بداية العام الدراسي ومع ذكرى الفاتح من أيلول الليبية ويضحك!
وعن بداية حبه لعبد الناصر يقول أبو العبد في عام 1956 وفي أعقاب العدوان على مصر وحرب السويس، سطع نجم عبد الناصر، وأصبح زعيم العرب بلا منازع "وتعلقنا به، وكنت يومها قريبا من الحزب الشيوعي حيث ظننت أنه يعبر عن طموحاتنا، لكن بعدما اختلف الاتحاد السوفييتي مع عبد الناصر عام 1958 واتهموا عبد الناصر بقتل فرج الله الحلو ووقف الحزب الشيوعي الى جانب الاتحاد السوفييتي ضد عبد الناصر، طلقت الشيوعيين والصداقة معهم ولم أعد أحتمل منشوراتهم الى اليوم، وانضممت الى أشبال حركة "الأرض".
وانعكاسا لحب أبي العبد لناصر فقد أطلق على أولاده أسماء ناصرية وأسماء رموز قومية أخرى، فابنه البكر أسماه عبد السلام، على اسم الرئيس العراقي الراحل عبد السلام عارف وكان ذلك عام 1970 قبل وفاة الرئيس عبد الناصر بـ41 يوما، ومضت عشر سنوات الى أن رزق بابن ذكر فأطلق عليه اسم عبد الناصر بدون تردد، وبعده ولد عبد الحكيم، تيمنا بعبد الحكيم عامر، رفيق وصديق عبد الناصر ووزير الحربية في حكومة الثورة، ويعلق أبو العبد أن عبد الحكيم لم يكن خائنا، لكنه كان انفعاليا ومقداما لا يفكر بالأمر مرتين، ولم يكن على قدر المهام الملقاة عليه، ومن حوله غشّوه ويؤكد على محبته لعامر ووطنيته، بعده جاء جمال نسبة الى الرئيس، فاكتمل الاسم الثلاثي، ويضيف أنه كان يرغب بتسمية خالد لكن القدر لم يرزقه بابن ذكر آخر. ومن البنات هناك انتصار ( ولدت بعد نصر أكتوبر) لكن أبو العبد يترحم على هذا النصر الذي نتجت عنه الخيانة، وبدر نسبة لموقعة بدر الشهيرة وميسلون نسبة لموقعة ميسلون السورية، وبنت تدعى هدى نسبة لابنة عبد الناصر الدكتورة هدى. وحرص أبو العبد على تعليم أبنائه جميعا من بينين وبنات ليعوض ما فاته شخصيا.
ويوم وفاة عبد الناصر كأنه يوم توقفت فيه الحياة، يقول أبو العبد أنه في اليوم الحزين وكان يوم اثنين مساء، وكان "الكلب" نيكسون على بارجة أمريكية في ايطاليا، والملك حسين يطلب المساعدة من أمريكا، وأراد الرئيس سماع الخبر وهو يرقد في غرفته. ونحن هنا نجلس واذ يذيعون خبر وفاة الزعيم بينما أحضرت لي زوجتي غلاية قهوة، فأمسكتها وضربتها بالحائط ولم أشرب القهوة، وأقسمت ألا أشربها خلال أربعين يوما، وهذا ما حصل حزنا على زعيمنا وقائدنا، لقد شعرت يومها أن الدنيا انتهت ودمرت حياتي، ويردف أبو العبد لم تمر علي أيام أقسى من وفاة عبد الناصر وهزيمة حزيران وانقلاب بومدين على بن بيللا في الجزائر
وأغاني الثورة ما زالت مطبوعة في ذهن أبو العبد ويسترجعها، وكلما سمعها تري قشعريرة في جسده كما يروي، ومن تلك الأغاني المحفورة في الذاكرة "صورة"، "يا أهلا بالمعارك"و "يا جمال" لعبد الحليم و"الوطن العربي" لمجموعة فنانين، وذائقته الفنية مرتبطة بتوجهاته القومية والسياسية فهو يستمع لأم كلثوم وعبد الوهاب من مصر ولفيروز ونصري شمس الدين من لبنان، والياس كرم وصباح فخري من سوريا، وأحب من القدامى سيد درويش ، عبده الحمولي، صالح عبد الحي، وما زال حتى اليوم يبحث عن المحطات الوطنية والبرامج الوطنية ويستمع لخطابات عبد الناصر عبر فضائية "وطني الكبير".
ولا بد لأبي العبد إلا أن يعرج على السادات الذي يكرهه لدرجة كبيرة وينزعج من سيرته، ولا يلفظ اسمه إلا مقرونا باسم حيوان.. وهو على يقين أنه لا بد وأن تتم محاكمة السادات على جرائمه وخيانته حتى وهو في القبر.
وما زال في جعبة أبي العبد الكثير ليرويه، فهو انسان مثقف فعلا ويحفظ الكثير من المعلومات والوقائع التاريخية بالتفصيل، ومع أنه فقد البصر لكن بصيرته ما زالت يقظة ومشتعلة، ولأن الوقت سار بسرعة وقطع علينا جلستنا الأولى دون أن نكمل حديثنا، فقد تعاهدنا أنت نلتقي عن قريب.. ومرة أخرى يعانقني أبو العبد ويغمرني بقبلاته الأخوية الصادقة ويودعنا وفي عينيه دمعة وفي صدره غصة...