خانتني ذاكرتي، فنسيتُ الزمان والمكان حتى خُيل إلي أن فصل الشتاء قد مضى بعواصفه الصاخبة وأمطاره الغزيرة وغيومه المتلبدة، وبدأت صُحب الضباب تنقشع رويدا رويدا، وتبعث الشمس أشعتها الحريرية الزاهية لتبشر بقدوم فصل الحياة والتفاؤل، فأخذت العصافير تحلق في السماء، ثم تعود إلى أعشاشها مغردةً أعذب الألحان، فرحة بدفيء وقدوم الربيع.
وقد تذكرت أنني خرجت باكرًا بنزهة إلى أحضان الطبيعة، مصطحبا الصغير أيهم، تاركًا مكتبي وجدول أعمالي، وكل التزاماتي، جلست أتأمل الكون وأسراره وتذوقت عذوبة المياه المتدفقة في الينابيع والجداول الجارية من بين أغصان الأشجار الغضّة، كثيرة الضلال محملقا في زرقة السماء وصفاءها، ونسمات الهواء، وأحدق بالجبال التي تكسوها أزهار البريّة الفواحة ورائحة وعبق أشجار العنبر والزئبق والزعتر تتراقص على أنغام موسيقى هدير الجداول وحفيف أوراق الأشجار، فتنحبس أنفاسي دهشة وروعة لأنفرد عن الدنيا وما فيها.

أطوف في شوارع وواحات نفسي، وتقودني الذاكرة بعيدًا نحو المجهول تارةً والتعمق بقدرة الخالق باري أسرار وسحر هذا الجمال الخلاّب تارةً أخرى.
أعترف أن ما زاد إلهامي وقدرتي على التعبير عمّا يجول في خاطري لم ينحصر في روعة هذا الجمال، وهذه الأجواء الذي يبعث في النفس الهدوء والسكينة وراحة البال، إنما نظراتي المنقطعة النظير إلى الصغير أيهم الذي اندمج في هذه الأجواء الخلاّبة، وكأنه خُلق من اجله فقط، فأراه يحدق ويعانق كل ما حوله ليكرس نظراته بشكل خاص على تلك الفراشة الملونة التي تُناجينا برموز ألف قصّة وقصّة.

عند الغروب...
تدور عقارب الساعة بسرعة جنونية، أخذت الشمس ترحل، خيوط الظلمة تتسلل نحو المغيب، فتتوارى أشعتها شاحبة تميل إلى الصفار، ها أنا أتتبع رحيل إشعاعها الهزيلة، وكأنه يودع البحر بلا رجعة، بينما تُداعب أمواجه الصّاخبة الرمال وتلاطم الصخور فيبدو الشُّفق مائلا إلى الحمرة، القانية ليحتضن أعالي القمم والروابي.
تهب نسمة لطيفة وأخرى عليلة، فتصغر عينا أيهم، يأخذه النعاس، تنسدل أهداب عينيه الصغيرتان، يستلقي على صدري فأحتضنه برقة وحنان متأملا قسمات وجهه الوردية تُوحي بالرضي والاطمئنان والابتسامة العفوية على محيّاه، فغلبني الشعور بأنني احتضن الجنّة...