[x] اغلاق
ودَّعتنا بالدّموع... حلمنا بالرّجوع
18/1/2011 14:03
هذه كلمةُ حقٍ وواجب، ارتأيتُ أن أسوقها أمامكم وفاء لذكرى رجُلٍ أحببناه فكَبّرناه، الخال الرّاحل أبو بسّام، الذي غادرنا إلى الدّيارِ الأبديّة في الثّاني والعشرين من الشّهر المنصرم، بعيدًا عن مسقطِ الرّأس، مرابع الطّفولة وملاعب الصّبا عن ثرى شفاعمرو وفلسطين  اللتين أحبّهما، فسكنتا قلبه الكبير، خلال عمره المديد ولم تُبارحاه لحظةً.
غادر الدّنيا بعيدًا عن الأحبّة والأهل، الذين لطالما لوّعهم الشّوق لرؤيته، رغم عدد المرّات المعدودة التي وطأت فيها قدماه أرض الوطن... فحرمتهم الغربة والظّروف القسريّة من وداعه الوداع الأخير، ومن التّملّي من محيّاه للمرّة الأخيرة.
لتسمح لي روحكَ أيُّها الرّاحل عنّا، الباقي بيننا حيًّا وحيَّا أن أناجيكَ، لعلَّ في مناجاتي لكَ ولو بعد حين، إرواءٌ للظّمأ الذي يملأ نفوسنا من لوعة الفُراق المكره، فماذا عساني قائِل؟؟
كانت مسيرة حياتكَ أيّها الرّاحل الكريم نصيبًا من مسيرة شعبكَ أو قُل مرآة لمسيرة شعبٍ بأسرهِ... عندما حلّت النّكبة عام 1948، وكنت حينها تقطن في مدينة يافا عروس البحر، حيث أنّك لتوّك قد اقترنت بشريكة حياتكَ الرّاحلة جورجيت أم بسّام... ووقعت حينها مذبحة دير ياسين وأخواتها، وواجه أيضًا الشّعب الفلسطيني بأسره التهجير الإجباري من وطنه... فأين المفَر؟؟ وشفاعمرو بعيدة، والجيوش العربية التي جاءت لتنقذ بقيّة باقية من فلسطين أو لتسليم البلاد والله أعلم... قد وعدتكم بأن: "أخرجوا لبضعة أيّامٍ وستعودون من بعدها، ونحن نكون قد أكملنا المهمّة"...  
هذه "المهمّة" التي مرَّ عليها اثنان وستون عامًا، ولمّا تبدأ فما بالكَ تكتمل؟!!... فخرجت من يافا مع قرينتك، برفقة عشرات الألوف الذين غادروها، ويمّمتَ شطر الأردن ثم لبنان صِفر اليدين... لا تملك من حطام هذه الدّنيا شروى نقير. واستمرّت مسيرة العذاب والشّقاء في لبنان، فكم عانيت من البطالة والعَوز في بداية وجودك ولجوئك كباقي أفراد شعبكَ من اللاجئين...
أراكَ الآن بعين خيالي تعاني مرارة العيش وشظفه في السنوات الأولى لاستقرارك في لبنان، ولكن العناية الإلهيّة لم تُهملكَ، حيث شاءت الصُّدفة  وبالمحاسن الصُّدَف، أن يختار القائد الوطني الكبير، كمال بيك جنبلاط، قرينتك  أم بسّام لتكون مربّيةً لنجله وليد في المختارة... فكانت نِعْمَ المربّية.
تحسّنت ظروف العائلة الاقتصاديّة، وأنت انخرطتَ أيضًا في السّلك الوظيفي في إحدى الشّركات المعروفة، وتدرَّجتَ في السُّلَّم الوظيفي لأعلى المناصب... ولكن دوام الحال من المُحال كما يقولون... فاندلعت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، لتأكل الأخضر واليابس، وكنتَ كبقِيّة شعبكَ مستَهدَفًا من قِبَل اليمين الفاشي الماروني... هؤلاء الذين ذبحوا صديقك وابن بلدكَ نديم السّلباق، وزوجته وابنته نبيلة كالخراف... لا لسببٍ إلاّ لكونهم ينتمون إلى فلسطين. كما أرادوا الإجهاز عن ولدكَ وحيدكَ بسّام... لكنّ القدرة الرّبّانية رعته وأنقذته في اللحظة الأخيرة.
غادرت الأسرة لبنان إلى بلاد المهجر... إلى العالم الجديد الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت مرحلة أخرى من حياتكَ... كنّا نتحرّق شوقًا لزياراتك إلى شفاعمرو والبلاد... كنّا ننتظرها على أحرّ من الجمر، حيث تلتئم العائلة حولكَ... فكنتَ النّاصح الشّفيع لنا... وحامل همومنا وهواجسنا.
برحيلك أيُّها الخال الكريم فقدنا رجُلاً لا يتكرّر، أحببت الحياة بكل جوارحكَ، وكنتَ خير المحب الصّادق والحارس الأمين لأشواقنا... كم كانت أمنيتكَ أن يعانق جسدك ثرى مسقط رأسكَ شفاعمرو بعد رحيلك... لكن القَدَر أراد ألاّ تتحقّق أمنيتكَ الغالية. فنَم قرير العين يا أبا بسّام... طوبى لكَ يا من جعلتَ من حبّكَ وخوفك علينا فاكهةً وشجرة دائمة الخضرة وارفة الظّلال... سلامٌ عليكَ أيُّها المعلٍّم... فهل أدّيتُ دَينكَ علينا... ولو بنتفٍ قليلٍ؟... فالمجدُ والخُلود لذكراكَ.
(ألقيت هذه الكلمة في القدّاس الذي أقيم راحةً لنفس المرحوم، يوم الجمعة 7/1/2011 في كنيسة القديسين بطرس وبولس ببروم الكاثوليك في شفاعمرو)