[x] اغلاق
الوارث
26/4/2011 15:33

"الوارث"

 

 

 

 

كنت هناك في المكتية البلدية على اسم "سنديانة فلسطين" عبد الكريم الكرمي " ابوسلمى" ، مع مجموعة من الاخوة الاجلاء قدموا لحضور الندوة الثقافية الادبية عن رائد القصة والرواية الفلسطينية خليل بيدس (لتبقى ذكراه عطرة) 1874- 1949 . التي افتتحها رفيقنا الشاب شادي خليلية ، وحاضر فيها رفيقنا المحامي سمير فوزي الحاج ، اللذان ابدعا بشمولية في تقديم سيرة الكاتب العلمية والادبية الغزيرة بالابداع والعطاء وخيرا فعلوا الناشرين اصدارها بهذا الوقت بالذات رغم الظروف الموضوعية بغياب نصها عن الجمهور " واخفائه قصدا" فقد قام الناشران فؤاد العكليك مع صديقه رمزي الطويل في رام الله بتاسيس مكتبة رقمية (كاول مكتبة الكترونية فلسطينية )قبل ثلاث سنوات واحد اهدافها اعادة ربط الحياة الثقافية المعاصرة بما شهدته الحياة الثقافية الفلسطينية قبل عام 1948، وكانا يعلمان ان اول رواية فلسطينية كتبت كانت " الوارث" لخليل بيدس ،وانها فقدت سنة 1948 ، فبدءا رحلة البحث عنها في مكان من مصر الى سوريا الشام حتى لبنان ، حتى اسعدهم الحظ بايجادها في احدى الجامعات الاسرائيلية " الجامعة العبرية في القدس" .ولم اكتف بما اتحفاني به رفاقي الاعزاء ولم يغادرني الشوق العارم والرغبة الجامحة في البحث عن مزيد من النصوص المأرخة لحياة وابداع الاديب اللامع خليل بيدس ، لانقلها لكم للاستزادة والاستفادة وتوسيع الآفاق وسبر الاعماق لاكتشاف الكنوز المكنونة في ادب وابداع روادنا الفلسطينيين الاوائل ، الذين استشرفوا الماساة الفلسطينية مسبقا ، غير مصدقين ان البلاد سيسطوا عليها العباد من الغرباء والاغيار وتغدو الديار لغيراصحابها الامجاد . وصدرت الرواية بطباعتها الانيقة وتقع في 128 صفحة من القطع الصغير رسم على غلافها الفنان التشكيلي الفلسطيني وليد ابوي صورة الاديب خليل بيدس .

ولقد استقبل الكثيرون اصدار الرواية بحفاوة كبيرة بعد العثور عليها في عرين الغاصب السارق غير المفارق لروايته الكاذبة ان فلسطين كانت خالية من البشر وخاوية من الابداع والعلماء النجباء ، ومعروف عن المحتل اول ما يصادر ويبادر الى طمس الهوية الثقافية لاهل البلاد الاكابر ويبيد ثقافتهم وادواتها من مخطوطات وكتب ومجلات وجرائد وشواهد ويجز بها في غياهب النسيان والكتمان، اولم يسرقوا كل الكنوز من الدراسات والابحاث والابداعات الادبية من مكتبة مركزالابحاث والدراسات الفلسطيني خلال اجتياحهم لبنان و بيروت سنة 1982بهدف القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية؟ . أما رواية " الوارث ", فهي تقص حكاية الشاب عزيز الحلبي المقيم في القاهرة مع عمه التاجر الثري , وهو وارثه الوحيد , يقع الشاب في غرام راقصة يهودية هي " إستير " التي تنصب شباكها حوله وتحيطه بمجموعة من المرابين اليهود يستغلون حبه لها ويحاولون الاستيلاء على ثروته: ناتان الصيرفي , ارميا تاجر الآلات الموسيقية , اشعيا الخياط , والعمة راحيل , وعزير لايعلم مايدبر له فلم تكن تهمه الا متعه هو " لا يميل الى السياسة ولا تهمه الحرب , لأن في نفسه حرباً أخرى كانت تستغرق كل أوقاته .. غير أنه كان يصغي إلى أحاديث السياسة ويطالع بعض الصحف من حين لآخر ارضاء لعمه " ص 32 من الرواية . وأحداث الرواية تدور قبل الحرب العالمية الأولى وأثناءها , وتلقي بظلالها على مايكنه الصهاينة للعرب , وتحذر من الوقوع بين براثنهم قبل قيام دولة اسرائيل بثلاثين سنة , وحقق فيها المؤلف بعض ماكان يراه من وظيفة الرواية , وكانت صرخته ألاّ تعامل مع اليهود إلا بحيطة وحذر وإلا هلك الانسان وفقد مايملك .. طبعاً المأخذ على الرواية كثيرة , لكن مايغفر لها أنها من أوائل الروايات التي كتبت في فلسطين , فلا يمكننا أن نطلب من المؤلف وفي ذلك الوقت , أن يعطينا تصويراً فنياً لمواقف الانفعالات المختلفة التي تعتمد على الصراع النفسي , ولا أن يغوص في أعماق النفس البشرية ليعرض مكنونتها ويحل رموزها . ويكفي المؤلف أنه كتب رواية خالية من السجع والمحسنات اللفظية التي كانت تثقل الكتابة في ذلك العصر , ويبقى للرواية قيمتها التاريخية وريادتها في مجال نوع أدبي جديد على لغتنا العربية . ورغم اعتبارها رواية اجتماعية غرامية تاريخية وايضا علينا اضافة سياسية ، فالكاتب كتب الرواية في فترة "منازعة" السلطنة العثمانية ونشوء " المسالة الشرقية" كما اطلق عليها الغرب، بتقسيم ميراث الرجل المريض ( السلطنة العثمانية) الذي اثقلت كاهله واثقل كاهل امبراطوريته المريضة الممزقة الديون والفقر والاستبداد والتخلف ، والتي قوضت وسقطت بموجب اتفاقية "سايكس بيكو" المشؤومة التي قسمت ميراث الدولة العثمانية بينها لدول ودويلات تابعة لها ما زال العالم العربي يعاني نتائجها المدمرة والتي كان هدفها ان لا تقوم قيامة ابدا لوحدة عربية قادمة وتم في هذه الفترة ايضا استصدار الوعد الانجليزي لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين بالوعد المشؤوم والمسمى" وعد بلفور" لحل " المسألة اليهودية" في اوروبا وتماشيا مع طموحات وقرارات المؤتمرات للمنظمة الصهيونية العالمية حينها ونهاية الرواية تفدي الى اختيار سبيل الفضيلة والموقف الصحيح بان عاد عزيز الى حضن " نجلاء " العربية حيث اعتبر هذا الموقف عودة الى الموقف القومي العربي في مقاومة كل الاغراءات والاحتيالات والاحتلالات الغربية الانجليزية الفرنسية الجديدة واعوانها وعلى راسها الحركة الصهيونية العالمية حينها التي دارت تستعطف الاتراك والانجليز للحصول على حصة من ميراث الرجل المريض " السلطنة العثمانية " . وقد دفع كاتبنا ثمن معارضته هذا الوعد المدمر حين القت القوات الانجليزية القبض عليه في اول مظاهرة عربية سنة 1921 قامت في بيت المقدس بمناسبة عيد النبي موسى، بعد خطبته الحماسية للجماهير محرضا على رفض الاتفاقية ومقاومتها فحكمت عليه بالاعدام ، ولكن المظاهرات التي اشتدت بعد اعتقاله في فلسطين ادت الى تبديل الحكم الى السجن مدة 15 عاما . واودع سجن عكا لمدة 4 اشهر كتب ايضا خلالها كتابه "حديث السجون" الذي لم يرسله للمطبعة تفاديا وحرصا على مسيرته التعليمية والتنويرية وخدمة الوطن وهو طليق وحر . بعد ان جاء السر هربرت صمويل الى فلسطين كاول مندوب سامي عفا عن المحكومين وامر باطلاق سراح المعتقلين ، فخرج خليل بيدس معهم. وقضى بقية حياته متفرغا للتعليم وللكتابة وطباعته للروايات الاجنبية العديدة . وقد ظل بيدس متمسكاً بالإقامة في بيته في البقعة الفوقا في القدس , بين كتبه وأوراقه ورفض مغادرة الدار مع أولاده وعائلته , فاضطروا إلى تركه وحيداً , وظل في البيت وهو واثقلا أدري من أين جاءته تلك الثقة وأنا لا أدينة هنا فلو بقي الجميع لتغيرت أمور كثيرةبأن اليهود إذا دخلوا الأحياء العربية فلن يكونوا وحوشاً ليعتدوا على شيخ مثله . لكن بعد أن دخلوا الحي العربي وقد خلا من الحامية والمدافعين أخذوا يرتكبون أفظع الجرائم ويتعمدون السلب والنهب والقتل , وسمع كل ذلك . فبارح منزله تاركاً كل شيء طلباً للنجاة , وسار على قدميه في طرق وعرة شائكة حتى وصل إلى سلوان قرب القدس , حيث أغمي عليه . فاعتنى به أهل القرية حتى عاد إلى وعيه ودبروا انتقاله إلى عمان , فبلغها منهكاً , وبعد أيام سافر الى بيروت ليلحق بأولاده وعائلته . وفي التاسع من شهر شباطفبراير – 1949م توفي فيها والحسرة تملأ قلبه .. وهكذا مات أحد رواد النهضة الثقافية في فلسطين في القرن العشرين , في السنة التي توفي فيها موريس ماتيرلنك وريتشارد شتراوس وتوماس هندلي .

هذا الاديب الفلسطيني المولود سنة 1874 في الناصرة ، لاب يعمل تاجرا مستقلا لبيع الاقمشة وكان لقب بيدس تشبها برجل غريب ، متين العضلات كان يعيش في بلدتهم ويسمى بيدس الذي اطلق ايضا على عمه يوسف ، تلبسه هذا الاسم وغلب عليه اللقب وعلى اسم العائلة التي ينتمي لها وهي " الصباغ" . تلقى مبادىء القراءة والكتابة على يد المعلم يوسف نصر بالمدرسة الارثوذكسية في الناصرة. ودرس في " السمنار الروسي" في الناصرة سنة سنوات 1886-1892 وتخرج مؤهلا ليكون مديرا لمدرسة ابتدائية من المدارس الروسية المنتشرة في فلسطين وسوريا ولبنان، فدّرس في حمص وبسكنتا وهناك اعجب باحدى المدرسات فيها وهي أدال ابي الروس فتزوجها .

ودّرس في مرجعيون وسوق الغرب حتى استقر به المطاف في حيفا سنة 1908 واصدر فيها يوم 1\11\1908 العدد الاول من جريدته الغراء " النفائس العصرية" التي استمرت بالصدور حتى سنة 1920 . وقضى في حيفا ثلاث سنوات ثم يترك التعليم وينتقل الى القدس سنة 1911 ليكون عضوا في المجلس المختلط للطائفة الارثوذكسية الفلسطينية ، ممثلا لمدينة الناصرة مسقط راسه . للكاتب 44 مؤلفا بينها الكتب المدرسية في اللغة العربية والحساب والكتب التاريخية عن الملوك الروس وعن بلاده فلسطين وترجماته العديدة للروايات الروسية العظيمه لمعرفته واتقانه اللغة الروسية واستهوائه الادب الروسي الكلاسيكي الاصيل ومجموعته القصصية " مسرح الاذهان" وروايته " الوارث"، ويروى ايضا انه اعد معجما كبيرا في اللغة العربية ، فقدت مخطوطته عند رحيله عن القدس سنة 1948 وهذا المؤلف يستأهل البحث عن مخطوطته لايجاده وطباعته كجزء من الابداع اللغوي الفلسطيني . وهناك ثلاث مجموعات قصصية مخطوطة لخليل بيدس , فقدت أثناء حرب 1948م وهي احلام الحياة , اسرار الحياة , صور الحياة ... , كما أنه نشر كتاباً سنة 1924م في القدس بعنوان " ديوان الفكاهة " قصص وطرائف .. ربما ضم باقي مانشره من قصص وحكايات في مجلته النفائس , حيث أن كتابه مسارح الأذهان لم يحتو سوى على عشر قصص من جملة القصص الكثيرة التي نشرها في النفائس .

يوسف حيدر