[x] اغلاق
حوار شعر حنا أبو حنا وحروف كميل ضو
11/5/2009 10:44

جاء في لسان العرب لإبن منظور: كتب الشيء خطّه، والكتابة هي جمع الجلود بعضها إلى بعض وخرزُها ليضعوا فيها المزاد والقربة. وتناقلت بعض كتب التدريس لأصول الخط أسطورة الكتابة التي تقول إن ملكًا عظيمًا ومحبوبًا كان يفيق في الصباح ويحمل آلته الموسيقية ويبدأ بالغناء، واصفًا الطبيعة الجميلة ووجه محبوبته الفاتنة. وفكر كيف يمكنه أن يجعل أغانيه وأشعاره خالدة ويذكرها الآخرون، فجمع حكماءه وأطلعهم على الأمر. فأشار عليه كبيرهم أن يبعث رسولاً إلى بلاد أخرى ليستكشف الموضوع، فذهب ذلك الرسول وعاد ليصف للملك أن أهل تلك البلاد يرسمون أشعارهم وكلماتهم بأشكالٍ وصور ينقشونها. ويمكنهم أن يقرأوها، فاستحسن الملك المشورة وأخذ يرسم أشعاره، فعلّم أبناء مملكته الكتابة.
وأوردت مجلة المسرة في عدد شباط 1957 مقالاً للأستاذ يوسف أغوسطين، وهو مدير سابق لجريدة الأهرام، أن الوزير العباسي أبا علي بن مقلة، وأخاه عبد الله، ومن جاء بعدهما قاموا بتطوير الخطوط العربية وخاصة النسخي منها في القرنين الرابع و الخامس.
ويرى ابن مقلة ضرورة لتجويد الكتابة بحسن التشكيل، فالحروف العربية تحتاج إلى خمسة أشياء لتصحيحها، وهي: الإتمام، التوفية، الإكمال، الإشباع والإرسال. وتحتاج إلى أربعة أشياء لتحسين وضعها وهي: الترصيف، التأليف، التسطير والتوصيل.
ويقول الأستاذ يوسف علي ضمرة من المعهد الزراعي في طولكرم إن الكاتب العربي استطاع أن يبتكر صورًا مختلفة للخط العربي وزخرفته، وأسرف في الزخرفة إلى حد التعقيد، وأنشأ ما يعرف بفن الزخرفة أو "الأرابسك" فاعتبرت بأنها لغة الفن الإسلامي.
  أما الفنان كميل ضو فيقول في كراس تعليم قواعد الخط العربي، إن الخط هو الوسيلة الناطقة في التعبير الكتابي، ويجب أن يكون واضحًا وجميلاً يبرز جمال الفن الذي هو جزء من الحضارة.
والمعرض الذي نفتتحه اليوم هو صورة حسية وواقعية لهذا الفن الذي يسهم مع سائر الفنون في تكوين الحضارة وإظهار جماليتها. واختار الفنان كميل ضو أن يرسم لوحاته هذه من أشعار الشاعر والأديب الكبير الأستاذ حنا أبو حنا، فأظهر معه تفاعلاً منقطع النظير، تمامًا كما فعل مع كبار الشعراء والمفكرين في جملهم وأقوالهم المأثورة كالسيد المسيح في تطويباته والقديس بولس في رسائله، وجبران خليل جبران في قصائده، وأبي القاسم الشابي وغيرهم ممن رسم لهم كميل لوحات سابقة وقد عرضت من قبل، وأوردتها بالتحليل والتقييم في كتابي "جمالية الحرف في فن كميل ضو، والصادر عام 2002، أو في هذه اللوحات الرائعة التي سنترك لكم فرصة الاستمتاع بمشاهدتها من خلال هذا المعرض. هذه اللوحات التي جاءت تعبيرًا صادقًا عن مضامين وأهداف الأبيات الشعرية التي قالها شاعرنا الكبير حنا أبو حنا، واستطاع كميل، كما شاهدتم أو ستشاهدون، أن يحول بيت القصيد إلى لوحة، وأن يجعل من كل بيت رمزًا آخر يفيض بالمعاني والمشاعر والألوان والأشكال التي اكتملت ما بين كمال الشعر وكمال الفن. ويثير فينا هذا الحوار السرمدي الذي يأخذنا للخيال البعيد ويأتي بنا إلى الشعور الدفين في حوار مستفيض بين الشعر والحروف. وكنا قد استمعنا إلى الشاعر حنا أبو حنا في قصائده وطالعنا أشعاره عبر هذه اللوحات، وكأنها تنطق بصوته الأبوي الحنون وهو يخاطبنا ويحدثنا عن بلادنا وطبيعتها الخلابة، أو تثور في صرخة المناضل والرافض لكل وجوه الظلم والإجحاف والاضطهاد. ويضيق المجال جدًا جدًا بالحديث عن شاعرنا الكبير، فقد أصبحت أعماله الأدبية كلها دون استثناء، من شعر ونثر، مرجعًا للباحثين والدارسين والمؤرخين لتاريخ وثقافة هذا الشعب الذي ننتمي إليه، ومهما قلنا عن أعماله الأدبية فإننا لا نستطيع إيفاءه حقه، ولنستمع إلى الرؤيا التي يتطلع إليها حاملاً هموم شعبه وواضعًا قضاياه بمنظار الفداء والتضحية والبذل لأجل هذا المجتمع وهذا الشعب، وهو الذي واكب شعبه بنضاله ورافقه في تعزيز كيانه وساهم بترسيخ أهله في وطنهم. أليس هو القائل في قصيدة عهد:
هوذا عهدي لشعبي:
أن أغذي بدمي خفق سراج
في متاه الكهف ما زال يضيء
أملاً ... عزمًا... وأجراسَ ربيع
فاشهدوا: أنا سَرينا
في عروق الجذر جذوه
أننا الكف التي تلطم مِخرز
أننا الجرح الذي ينزف قوه..
فأخذ الفنان كميل ضو هذا الشطر الأخير من القصيدة وجعلها لوحة رائعة. واستمعنا واستمتعنا بتشكيلها ضمن اللوحات الرائعة للفنان كميل ضو، وسرني جدًا أن يقوم الفنان الكبير  عبد عابدي بالحديث عن تجربته مع المبدع الشاعر حنا أبو حنا والفنان الموهوب كميل ضو، حيث عملوا معًا في صحيفة الإتحاد في سنوات غابرة، فالفنان عبد عابدي الذي خرجت لوحاته وأعماله في انطلاقات متميزة إلى العالم، استطاع أن ينقل إلى هناك أفكاره ومشاعره وقضاياه، معبرًا بها عن نفسه ومن خلالها عن شعبه، والتي برزت في أهم المتاحف والمراجع التي تسجل الحضارة الفنية العالمية.
إننا نهدف في هذا المجال أن نشبعكم فنًا أصيلاً ومبتكرًا في شكله ومضمونه، فالأستاذ الشاعر حنا أبو حنا له الباع الطولى في كتابة الخط الجميل حتى أنه كان يكتب العناوين الرئيسة في صحيفة الاتحاد، قبل أن يصبح الموضوع إلكترونيًا سهلاً، وكذلك الفنان المبدع كميل ضو فقد بدأ بنقطة الحبر، نقطة حبر سقطت من قلمه على الورقة وهو يستعد لكتابة عنوان رئيس في صحيفة الاتحاد، فأخذ يجر الحبر من النقطة بأشكال وحروف سرعان ما تحولت إلى لوحة فنية جميلة. فشاعرنا الكبير، الأستاذ حنا، أبو الأمين، نظر إلى كل ما يحيطه وحوّله إلى قصيدة وإلى شعر، واستطاع أن يقنعنا بقصائده، بعمق أفكاره، بسعة تجاربه وخبراته في شتى المجالات الأدبية والميادين التربوية، لكي يتبوأ مكانة مرموقة في الشعر المحلي والعربي عامة، وقد شهدته في بعض جولاتنا المشتركة في تونس وفي القاهرة، حين كان الكتاب والأدباء وعلى رأسهم نجيب محفوظ ينتظرون قدومه والالتقاء به، فالجميع يتطلع إليه كإلى شاعر مخضرم، وإلى قاص رفيع المستوى وإلى أديب عالي القامة وإلى مرب تخرج على يديه كثير من الشخصيات الأدبية والسياسية والاجتماعية المعروفة، والكل يشهد له بالفضل والعرفان. ولنستمع إليه يقول في مطلع إحدى القصائد التي اختار منها الفنان كميل ضو لوحته، وهي قصيدة نبض الإيقاع الكوني:
في البدء الوردة كانت قبل السوط
في البدء الجذوة قبل الخزف وقبل الشمع
كان النور قبل النار وقبل البارود
في البدء الشجرة كانت ثمرًا.. فيئًا قبل عمود الصلب
في البدء رغيف الله وعلى هيئة خالقه الإنسان
أبدًا يبتدئ البدء.. إلى آخر القصيدة، فجعل كميل هذا البدء كما هو الحال في إنجيل القديس يوحنا عندما قال في البدء كان الكلمة.
ويمضي شاعرنا الكبير في قصائده التي جمعها في ديوان لكامل أشعاره، وصدر مؤخرًا، فيقول في قصيدة "مفاتيح" ما جعل كميل يأخذ منها لوحة أخرى، وتقول القصيدة:
مهب الخناجر هذي النوافذ
محاجر هذي البيوت مشارف للروح
يخنقنا فتحُها للهاثِ العوادم
والديزل المتجشّئ في الرئتين
مهب الخناجر هذي النوافذ
مفاتيح زوبَعها في الفضاء الحنينُ
يزعق من لهوات السنونو
تحوم تسأل عن مقلة الباب
عن عتبات البيوت وحوض الحبق
هنالك من شارع الجبل النّشجاتُ
ومن جادة الكرمل الحشرجاتُ
تشلَّخ أسماؤها
ويمحو الزمان المكان.
     إذن نشاهد لمحات، بل ومضات من قصائد الأستاذ الشاعر حنا أبو حنا لتنتقل إلينا بواسطة لوحة جديدة تحمل مفهومًا إيضاحيًا، وتفسيريًا ما يضفي عليها رونقًا وحسًا وبعدًا آخر، لأن تعامل الفنان كميل ضو مع الخط العربي هو تعامل مسؤول، ينم عن الحرص على إيفاء الحرف للمضمون الذي تحمله الكلمة المكتوبة، وقد قام كثير من الكتبة والخطاطين في السابق بتطوير وتنسيق وتنميق الخط العربي، فكتبوا فيه القرآن الكريم، وزينوا بآياته لوحاتهم وبيوتهم ومساجدهم، وزخرفوا بالأرابيسك ذات التوريقات والتعرجات والتشابك والذي أصبح فنًا مستقلاً ومحدد المعالم، ويتعامل به إلى يومنا هذا كبار الفنانين. واستطاع كميل ضو أن يتملك بملكة هائلة ليظهر قدرته على تطويع الحروف وصياغتها بقوالب جديدة، واصبحت طوع بنانه، لا تعصاه ولا تتمرد ولا تجنح ولا تحرن، بل تنقاد له ليتصرف بها كما يحلو لفنه وإبداعه. وهذا ما بدا جليًا في لوحاته هذه المعروضة أمامنا.
وفي إطار التقييم ووضع لمسات فكرية على هذا المعرض تحدث الأستاذ مارون قعبور وهو أستاذ مارس الفن كأستاذ أو كمعلم، وظهرت لوحاته بميزاتها وأشكالها وألوانها وهي تدخل القلوب دون استئذان، فتحب أعماله وتعشق أفكاره وتشطح مع خياله نحو اللا محدود واللا معهود. ومن جهة أخرى كان أستاذًا أو معلمًا مارس مهنة التدريس والتربية فعلاً، فهو يرسم فنًا كمعلم ويعلم كفنان، وماذا علّم، علّم الرياضيات التي أثبت من خلالها أنها فن في فك المشاكل وحل العقد والمسائل، وتطرح الحلول الإبداعية وتنمي الموهبة الذاتية.