[x] اغلاق
شخصيّةٌ عشقتها الذّاكرة
11/10/2011 15:23

شخصيّةٌ عشقتها الذّاكرة

بقلم: مارون سامي عزّام

هذه المدينة تحبُ أن تزدهر تجاريًا، عن طريق السّماح لتجّار ليسوا من أهل البلد، بأن ينالوا رزقهم فيها، مع أنّ هناك مدن وقرى عربية، لا تسمح لأي تاجر ليس من أهل البلد أن يفتح محلاً، ولكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، حتّى مؤسّسات البلدية، ارتأت أن تطلق أسماء شوارعها المعبّدة ودوّارتها المشجّرة، على شخصيات شهيرة، معظمهم ليسوا من رجالات هذه المدينة البارزين، وليس لهُم علاقة بأهل المدينة، فهناك اسم تمّ تغييبه، ويستحق من هذه البلدية اهتمامًا كبيرًا، وهو المربي الفاضل والشخصية الاجتماعية الفريدة، الأستاذ شفيق صبري عزّام، رحمه الله، الذي مرّ على رحيله هذه الأيام عامان.

هذه الشخصية، لم تلقَ اهتمامًا لائقًا من قِبَل مؤسسات هذه المدينة، فلَم تُكرّم سواء في حياتها أو في ومماتها على عطائها لأهل هذه المدينة... وإلى الآن لم يُطلَق أي شارع أو مدرسة على اسمه، لماذا هذا الإهمال؟! فإنّ الذّاكرة الجماهيريّة لم تنسَه، ما زالت تردّد اسمه في مدينة طمرة أكثر من شفاعمرو، لأنّهم يُقدّرون هذه الشخصية الإنسانيّة القديرة، التي قلّ مثيلها اليوم في مجتمعنا.

مشروع ترميم الآثار السّياحية لشفاعمرو، أمر حيوي للغاية، وجزء أساسي في تشجيع السّياحة الدّاخليّة والخارجيّة، لكن السؤال: هل الأسماء الشّهيرة المعروفة غير الشفاعمريّة التي تُزيّن شوارعنا، تُعتبر جزءًا من ترميم ذاكرة السوّاح الوافدين إليها؟!، وجزءًا من المشروع السّياحي للمدينة؟!، مع أن شخصية المربي الكبير الرّاحل شفيق عزّام، إرثه العملي والعلمي، أيضًا جزء انصهر بتاريخ شفاعمرو المشرّف، وإنّه لن يُمحى عن جدران مدرسة الكاثوليك العريقة... لن يُمحى عن جدران المدرسة الابتدائيّة "ج"... لن يُمحى من المدرسة الليلية لمدرسة المكتب التاريخيّة، وذكرياته مع معلّميها وطلابها، ما زالت تجمعهم به في جميع الأماكن التي التقوه فيها، ومع كل الذين أحبوا أنفته ومعاشرته.

استمرت رحلته التّربويّة خمسون عامًا، من العطاء والتّفاني، فكان التعليم بالنسبة له سُنّةً حياتيّة، فتخرّجت على يده أجيال، ما زالت تذكره وتبجّله، وما زالت إلى هذا اليوم تتذكّر نهجه في التدريس، لأنها عشقت أسلوبه السّلس، وتتذكّر نصائحه التوجيهية، لأنّ هذه الأجيال اكتَسَبت من فيض خبرته. في المجال الاجتماعي، كان من كبار وجهاء هذه المدينة، فكان حاضرًا في كل مناسبة اجتماعية، كما أجاد فن الخطابة البليغة الانسيابية والتلقائيّة، التي خرجت من فمه بطلاقة، وكانت مقبولة على جميع أهل البلد.

في المجال التطوّعي، كان للرّاحل شفيق عزّام دور فيه أيضًا، فكان عضوًا فعّالاً في بيت المسن... كان وكيلاً أمينًا لوقف الرّوم الملكيين الكاثوليكي، على مدى 31 عامًا من العطاء المستمر حتّى رمقه الأخير، ساعده صفاء ذهنه الرّوحي على تذكُّر بعض الأمور المتعلّقة بالوقف، أمانته ونزاهته كانتا وسامًا على صدره، فخدَم مجتمعه بكل وفاء وحب، وسيظل وجهه المتألق بالسّماحة والوقار، في كافة محافله الاجتماعية والدّينية... كان النّاطق الرّسمي المعتدل الرّصين لشريحة واسعة من أبناء بلده، غير مُنجر وراء أي تأويلات، فرحيله ترك فراغًا كبيرًا لن يستطيع أحد ملأه، وما زالت ذِكراه وذكرياته حاضرةً وباقيةً في ذاكرة كل فرد منا، التي عشقت هذه الشخصيّة المميّزة بابتسامتها وبهدوئها وحنوّها الأبوي.

أذكر أنّه جاءني في صغري ذات يوم، يحمل بيده كتابًا صغيرًا باللغة الإنجليزية، فطلب منّي أن أقرأ جملةً رائعة قالها آنتوني إيدِن، رئيس وزراء بريطانيا في الخمسينيات من القرن الماضي تقول: History makes people, more than people make history بمعنى: "التاريخ يصنع الرّجال، أكثر مما الرّجال يصنعون التّاريخ"... ولكنها بقيت عالقة في ذهني منذ أكثر من ثلاثين عامًا، لأن مغزاها العميق يدل على أن مسيرة الرّاحل الأستاذ شفيق عزّام خالدة، رغم تغاضي المسؤولين عنها، لأن تاريخه جعلهُ عَلَمًا تربويًا، ووجيهًا اجتماعيًا بالفطرة، لا يمكن لأحد أن يدّعي غير ذلك، رغمًا عن بعض الذين يحاولون التّستُّر خلف ستار الوجاهة المزيّف.

 (شفاعمرو)