[x] اغلاق
ومن يبتغ غير الوحدة الوطنية نهجاً فلن يقبل منه، وهو في الدنيا من المفسدين
17/2/2012 11:02

 

ومن يبتغ غير الوحدة الوطنية نهجاً

فلن يقبل منه، وهو في الدنيا من المفسدين

سميح غنادري

قلما يثير مقالا اهتماما كبيرا في أوساط القراء والمتابعين.. لكن مقال الزميل الصحفي سميح غنادري والذي نشر في بعض المواقع في الأسبوع الماضي.. أثار وما زال يثير ردود فعل واسعة بين مؤيد ومعارض بل وصل الأمر بالبعض من أنصاف القراء الى التحريض على الكاتب وتهديده! لأنه نشر مقالا يبدي من خلاله رأيه بقضية حساسة تشغل بال أهل الناصرة خاصة، عاصمة جماهيرنا والمدينة المركزية، وبال المواطنين العرب عامة وإن كانوا يفضلون وضع رؤوسهم في الرمل كالنعامة تجاهلا ودرءا للإشكاليات.

عنوان مقال الزميل سميح غنادري "ومن يبتغ غير الوحدة الوطنية نهجاً

فلن يقبل منه، وهو في الدنيا من المفسدين" طويل، واضح، صريح، شجاع. وقد توالت عليه ردود الفعل بشكل واسع، كما تناقلته المواقع في الخارج وفي الدول العربية، وقد وصلت الكاتب الرسائل المشجعة من عدد من المفكرين والأكاديميين العرب المسلمين والتي تشد من أزره، وكذلك من شخصيات محلية معروفة. ونظرا لأهمية المقال والأصداء التي أثارها فإننا ننشر مقاطع هامة ورئيسة منه تحافظ على جوهره، لكن ننصح بقراءة المقال كاملا وبتمعن. (السلام)

 

بمحاذاة كنيسة البشارة للاتين في الناصرة، وعلى عرض واجهة مبنى يشرف على ساحة المدينة التي أصبح اسمها المتداول ساحة شهاب الدين، توجد لافتة بالألوان مكتوب عليها، بالعربية والإنجليزية، الآية القرآنية: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران :85).

نتساءل: بأي حق يسمح البعض لنفسه بتشويه الدين الإسلامي الحنيف بهذا الشكل القبيح أمام العالمين، وبهذا المس بمشاعر أهالي المدينة؟ لم يكتف العقل المريض والعنصري الطائفي، الواقف وراء تعليق تلك الآية، بهذه الفعلة. ويظهر أن عدم ردعهم منذ سنوات من قبل العقلاء وفرْض إنزالهم لتلك اللافتة، جعلهم يتمادون. إذ استقبلت المسيرة التقليدية، احتفاءً بعيد الميلاد، لافتتان جديدتان معلقتان على طرف الساحة بمحاذاة رصيف الشارع الرئيسي. لافتتان تحملان آيتين "تعايدان" المسيحيين والمسيرة التقليدية. وكانت قد تصدرت المسيرة، بمن تصدرها، شخصيات قيادية دينية وسياسية من... الحركة الإسلامية أيضاً، تأكيداً منها على طقس وتمثيلية التعايش واحترام الدين الآخر والوحدة الوطنية علناً(؟!)، إلى جانب التوجيه سراً بتعليق تلك اللافتات، أو السكوت عنها وعدم إنزالها من قبلهم.

تقول الآيتان: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. الحق من ربك فلا تكونن من الممترين" (آل عمران:59) (الممترون تعني- المشككون). و " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" (الإخلاص:1-4). الذي علّق هاتين الآيتين قصد أن "يعايد" مسيحيي المدينة بقوله لهم: أنتم تشككون بوحدانية الله الواحد الأحد وتقولون إن المسيح ابنه، علماً بأن عيسى مثله مثل آدم خلقه الله من تراب.

يجري أمامنا إحتلال للحيّز الجغرافي العام للمدينة، بدون حق أو إذن أو تخويل من أحد، وبشكل منهجي مثابر واستفزازي دون ردع أحد. والأسوأ هو هذا الاغتصاب والتشويه الديني والعقائدي والنفسي لعقليات ومشاعر الناس ولهويتهم القومية والوطنية والنصراوية الجامعة، ولوحدتهم الوطنية على شتى انتماءاتهم الاجتماعية والدينية والطائفية. الحاصل هنا ليس حق وحرية الإنسان الفرد، بذاته ولذاته، أن يفهم دينه كما يريد، وأن يبرز هويته الدينية على ما عداها من مركبات أساسية للهوية الجامعة. وإنما سعي مجموعة لتشويه الدين واستعماله مطية وآداة وستاراً لخدمة أجندة سياسية واجتماعية رجعية وهدامة، ومحاولة فرض هذا على الفضاء الثقافي العام للمدينة.

مَنْ يفعل هذا يمس ويشوّه ويهين دينه أولاً. فالدين في جوهره، أي دين، ينادي بالمحبة والتسامح والتعايش والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والدين الإسلامي بالذات نصّ على عدم جواز التكفير للناس، وعلّم أن الله وحده يجوز له هذا الأمر "... وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم" (الحجرات: 13). و "... لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..." (المائدة 48). " ولو شاء الله ما أشركوا، وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت بوكيل"(الانعام 107). ونصّ "القرآن" على أن المسيحيين هم الأقرب مودة للمسلمين "... ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..."(المائدة 82). وأمر "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن..." (آل عمران 46)، "وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والمو عظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن..." (النحل 125).

من لا يلتزم بتعاليم هذه الآيات الكريمة أعلاه يكفر بتعاليم ووصايا دينه، وبالوحدة الوطنية والديمقراطية لشعبه حتى لو أخفى انتماءه الحزبي وراء حجاب تسمية ذاته بالشيخ فلان. لذلك، دفاعا عن الإسلام وعن "القرآن" نقول للمتاجرين بالدين ودعاة تسييسه وتحزيبه: أزيلوا تلك اللافتات من ساحة المدينة- إن كنتم حقاً مسلمين مؤمنين. فما من كفر أشد كفراً من استغلال آيات الذكر الحكيم في سبيل الباطل السقيم. والدين أطهر وأشرف من أن يحيله البعض إلى طائفة، ومن ثم يحيل الطائفة إلى حزب سياسي يشوه الدين ويحتكر فهمه وتفسيره، ويجعل منه ملكية خاصة وأداة ومطية أجندته السياسية- الاجتماعية، المتخلفة والهدامة.

لا أحسد بلدية الناصرة لا على صمتها ولا على تحركها ضد هذا الاغتصاب... إذا ما قررت التحرك. لكن لا أفهم ولا أتفهم صمت اللجنة القطرية للرؤساء، وكل أحزابنا، وكل اللجان الشعبية والهيئات التي كانت وراء التوصل لذلك الحل التوافقي... وهي ترى عدم الالتزام به. وإن فهمنا أو تفهمنا هذا، كيف نفهم أو نتفهم هذا الصمت الرهيب للجميع بخصوص استغلال الساحة من قبل تيار سياسي (وليس دينيا كما يدعي) للمس بدين الآخر وإقصائه وتكفيره. تريدون، يا كل العقلانيين، القيام بهذا على نار واطئة وبالهمس في غرف مغلقة؟ حسنا، قوموا به. انتظرتكم خمس سنوات وأنا حامل بمقالي هذا دون أن أكتبه، آملا بتحرككم. أصبح صمتكم خادما وغطاء "للجريمة"، فانطقنا خرسكم علكم تنطقون...

لم أذكر أعلاه الحركة الإسلامية، بأخوانها وسلفييها...، ليس فزعاً منها ولا تجنباً لمواجهتها فكرياً. ولا ينطلي علينا خرس الإسلامية على الحاصل وتبريرها، بالهمس والوشوشة، أن من يفعل هذا هم السلفيون. فهي الفاعلة والبادئة، وهي الخرساء إزاء من يواصل فعلها ويجعله أكثر تطرفا. فـ"عصا" السلفيين من عصي الحركة. لم أذكر الإسلامية لأني لم أعد آمل منها لا الخير، ولا الفهم والتفهم. بل أتهمها أنها هي بأفكارها وبنهجها، وبممارساتها، وبما غرسته في أجيالنا الطالعة من أفعال فئوية طائفية وإقصائية، على خلفية تسييسها وتحزيبها وتطييفها للدين... كانت الدفيئة لكل ما هو حاصل وتطرقنا له في هذا المقال.

وأوجه النداء بعدم الصمت والتحرك أيضاً. للمشايخ الأفاضل من رجال الدين المسلمين وكذلك لسائر أخوتي من متدينين وعلمانيين مسلمين (العلماني لا تعني الملحد)، من شخصيات اجتماعية ومثقفين وأكاديمين وكتاب وصحافيين وسائر الناس العاديين. فلا يعقل السكوت أكثر. واعذروني إن خاطبتكم، لأول مرة في حياتي، باسم هويتكم الدينية... أنا الرافض قلبا وقالبا لاستعمال هذه الهوية في الموقف وفي العمل. لكن ما العمل ما دامت الوسيلة الأسلم والأنجع  اجتماعيا للتصدي للطائفية هي أن يتصدى الإنسان أولاً للطائفية في ساحته الدينية. وكلنا يعلم أن محاربة طائفية الآخر مع السكوت عن طائفية الذات هي رعاية للطائفية وتسعير لها باسم  محاربتها.

أعرف أن زميلي فتحي فوراني كتب قبل شهور عديدة مقالاً عن الموضوع يخص تلك الآية على واجهة العمارة. لذلك ما من حاجة بتذكيري بهذا. وإنما هنالك حاجة بتذكيركم أنه ليس بإمكانكم تذكيري إلا بمقال المربي والكاتب فوراني ابن حيفا. وفتحي يساري علماني ونشيط جبهوي- شيوعي وديمقراطي. ألا فلتتفتح صفحات صحفنا، ومنابر جوامعنا وكنائسنا، وكل مؤسساتنا التمثيلية والثقافية ومدارسنا، بكل أطيافها السياسية والفكرية، لفيض من مساهمات وفتوحات تطيح باحتلال البعض لديانتنا ولتراثنا العربي الإسلامي الجامع.

أجاز الإسلام الاجتهاد في فهم وتفسير النص الديني. بما فيه اجتهاد الفقهاء والعلماء المسلمين في  فهم وتفسير آياته. واختلف هؤلاء، بمن فيهم الأولون منذ القرن الثامن والتاسع والعاشر، في تفسير بعض آياته. ولا يعتبر الإسلام تفسير أي مفسر منزلاً ومقدساً ومنزها عن أي خطأ. فما من مقدس ومنزل ومنزه إلا النص القرآني. أما البشر، حتى لو كانوا فقهاء ولاهوتيين، قد يخطئون (وأخطأوا كثيراً...) في تفسير الكتب المقدسة.

إليكم نزراً صغيراً من كم كبير لآيات قرآنية تؤكد ما ذكرناه أعلاه: "... وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون" (العنكبوت 46). "وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون" (البقرة 136). " وما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلماً" (آل عمران 67-68). ويقول إبراهيم عن ذاته: "...وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" (آل عمران 161-163). وعلى لسان المسيح جاء في القرآن "وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وقالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون" (المائدة 111). ويسأل المسيح الحواريين (التلاميذ) فيجيبونه: "قال من أنصاري إلى الله، قالوا نحن انصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون" (آل عمران 52). وحدّد القرآن شرعية الأديان "وشرّع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن إقيموا الدين ولا تتفرقوا..." (الشورى 13).

بناء عليه، فإن كل هؤلاء الذين سلّموا أمرهم لله هم مسلمون، من أيام إبراهيم إلى يومنا هذا وإلى أبد الآبدين. ولن يكونوا في الآخرة من الخاسرين. ولن يكون مصيرهم جهنم، بغض النظر عن أية دعوة دينية توحيدية يتبعون: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (المائدة 69). وتتكرر هذه الآية حرفياً في سورة البقرة: الآية 62، باضافة "فلهم أجرهم عند ربهم". بل ويعد الله السيدَ المسيح، حسب القرآن، أن يجعل اتباعه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة... (أما مجموعة ما من المتحزبين المتأسلمين في الناصرة، فيعدونهم بجهنم إن لم يستبدلوا تبعيتهم للمسيح): "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة..." (آل عمران 55). و "... أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى..." (المائدة 82).

مسك الختام

·         الدين، أي دين، نقيض للتقوقع والعنصرية والتعصب، ونهي عن المنكر وأمر بالمعروف. المسيحية "بشارة للأمم"، والإسلام "دعوة للعالمين". تحويل الدين إلى طائفة وجعل الطائفة حزباً سياسياً، وإدعاء الحزب عندها أنه قيّم على الدين، يعني ليس فقط  "تطييف" (من طائفة) و "تحزيب" الله ورسله، وإنما الاعتداء على الله والأديان والأنبياء والبشر عموماً. والتصدي للأحزاب "الدينية" التي تقوم بهذا، لا يعني التصدي للدين وإنما تحريره من احتلال تلك الأحزاب له.

·         لا ينقسم شعبنا بين أقلية وغالبية مسلمة أو مسيحية بل هو بغالبيته المطلقة عربي فلسطيني ذو هوية قومية ووطنية وإنسانية جامعة، على تعدد أديانها وطوائفها. ولا تقطن الناصرة أغلبية أو أقلية مسيحية أو مسلمة، وإنما تقطنها أغلبية عربية مطلقة.

·         الناصرة، تاريخيا، هي "مدينة البشارة" – مدينة السيد المسيح ووالدته مريم العذراء. هكذا هي منذ السنة الاولى للميلاد، وهكذا ستبقى إلى دهر الداهرين، حتى لو شكل العرب المسيحيون واحد بالمائة من سكانها فقط. كذلك مكة، تاريخيا، ستبقى مدينة المسلمين المقدسة حتى لو كان تسعة وتسعون بالمائة من سكانها عربا مسيحيين, وهكذا ستبقى إلى يوم الدين. ومن لا يراعي هذا يعتدي على المدينتين وعلى تاريخهما وعلى... الدين.

·         الذي يريد خلق هويات طائفية متصارعة لشعبنا، وجرّه نحو قبلية الطوائف وطائفية القبائل وزرع وتسعير الاختلاف والخلاف الديني... يلعب بالنار. وذلك حتى يسيطر هو حزبيا وسياسيا من خلال هويات ابتدعها، ودين هو اغتصبه وشوهه منصّبا نفسه قيّماً عليه وناطقا باسمه. والذي يرد على هذا بالمثل يسكب الكاز على النار نفسها. هكذا لا نحمي الوطن ولا الشعب ولا حتى الذات الفردية لكل منا، عداك عن الذات والهوية الجماعية الجامعة لنا كشعب. فلا يحمي الوطن وأهله إلا الوحدة الوطنية لأبنائه.

·         ومن يبتغ غير الوحدة الوطنية نهجاً، فلن يُقبل منه، وهو في الدنيا من المفسدين.