[x] اغلاق
فارَقَتنا أمَل... ففارَقنا الأمَل
10/8/2012 9:42

 

فارَقَتنا أمَل... ففارَقنا الأمَل

لروح الغالية أمل إبراهيم عزّام (أم شفيق)

بقلم: مارون سامي عزّام

لقد فَجَعَني خبر وفاتكِ... ورغم ذلك انحبست الدّموع في عيني وأبت أن تترقرق فوق وجنتَيَّ، أبت أن تلمع حتّى في بؤبؤيَّ، لأنَّك علَّمتِني رباطة الجأش وهدوء الأعصاب، الذي عُرفتِ به طيلة حياتكِ. لكنّي صرخت من أعماقي: "لماذا فتح لك ملاك الموت بوّابة الآخرة بهذه السرعة؟!"، شعرتُ أنّي قد فقدتُ قطعة من جسدي، فهذا الرّحيل سابق لأوانه.

عندما شاهدتُ نعشكِ مُسجّى أمامي، أجهشت بالبكاء بصمت خانق... وذلك أبسط الحقوق لكِ علينا. أعذريني غاليتي إذ لم أستطع أن أودّعكِ الوداع الأخير... أعرف أنّك لن تعتبي علي، لأنه يعز علي أن أودّع إنسانة تمسّكت برداء الحياة، فهل يستطيع المرء أن يستغني عن الأمل؟! فبدونه تصبح حياة الإنسان موغلة باليأس، وحياتنا بدون أُنسكِ مملّة.

بنينا حولك سياجًا من الدّعم والتعطّف، مع أنّك لم تحبّي أن يتعطف عليكِ أحد، فالتعطّف كان عبئًا عليكِ، جعلكِ تشعرين أنّك صرت متعلّقة بالآخرين. معنويّاتكِ منحتك قوّة الإرادة، فتجدّدت حياتكِ كالعنقاء، واستطعت مقاومة هذا المرض بلا هوادة، ومارستِ حياتك الطبيعية... رغم أنّك كنت تعلمين أنّ عمرك يخضع لجنون المرض وعبثه الخفي الخبيث... عشتِ حياتك تحت رعاية العلاجات القاسيّة التي تحملتها لأجل أسرتكِ دونما تذمُّر، لتعزّزي رباط الحنان بينكِ وبينها... لم أسمعكِ يومًا ما تصرخين على أبنائك، لكنّي سمعت صراخَكِ عندما استفحل فيك المرض.

زوجكِ البروفيسور زاهر عزّام، قرّر أن يتحدّى هذا العدو اللعين... أن يحد من انتشاره في جسدكِ، بشتّى العقاقير والأدويّة، باذلاً كل غالٍ ونفيس، لأنك أثمن شيء في حياته. كنت المرقاب الذي رأى من خلاله مستقبله العلمي الواعد، ساندته طوال فترة دراسته وتخصّصه، وقفتِ إلى جانبه طيلة هذه المدّة، فليس كثيرًا على امرأة بارعة بإدارتها... غزيرة بعطائها... قديرة جدًا بتربيتها لأولادها على حب مساعدة الغير، أن يقف إلى جانبها، أن يغدقها بحبه وحنانه.

البروفيسور الذي خدم الجميع بكل جوارحه، لم تفارق وجهه الابتسامة الرقيقة المعهودة حتّى في أعتى الظّروف، فكان راعيًا منزليًا لك ولأسرتكِ، لم يُشعِركِ بعجزكِ. كوّنتما أسرة هادئة، وادعة، مميّزة بعلاقتها ببعضِها، بدأ يبني لهذه الأسرة المدهشة بيتًا مؤسَّسًا على آمال وتوقّعات بأنّك ستصممينه على ذوقكِ ليكون لكما ولأولادكما مرتعًا ومأمنًا...  بيت يتلاءم وظروفك الصّحيّة... بيت تكونين أنت مَلِكَته الأزليّة وأيقونته الجميلة المعلّقة على جدران الوئام.    

أولادك كانوا من حولك شريطًا من الأمان، حزامًا قويًا شدّ من عزيمتكِ. فكان شفيق العُكاز الذي استندت إليه... أصبح رجل المهمّات الصّعبة، رافقكِ طوال فترة مرضكِ، لازمكِ مثل طيفكِ في كل حركة قمت بها، ضحّى في سبيل أم تستحق التّضحيّة. أمير أحب أن يكون الأمير المدلل، في مملكة حبك له... تمرّغ في إمارة حنانكِ كطفل صغير، لملم فتات لحظات تواجدك معه، فصنع منها أرغفة لوعة واشتياق، يتقاسمها مع شقيقته وردة، تلك الوردة النّاعمة التي آلمتها أشواك مرضك وفراقكِ.

شقيقتا زوجكِ كانتا مجنّدتين لأجلك، حاضرتين معَك في هذه الأوقات الحرجة من مرضكِ، تناوبتا كملائكة الرحمة السّهر مع شقيقهما الحنون زاهر كي يخفّفا من ألمه، شاطرتاه هذا الحِمل الثقيل مع الأصدقاء. دخلت العائلة وجميع الأنسباء والأقارب في نفق الانتظار الطّويل، ينتظرون بصيص أمل يُطل عليهم في آخر النّفق المعتم، لعَلَّكِ تستيقظين من سباتكِ اللاإرادي، ليسمعوا من جديد نبرة صوتكِ الخافتة النّاعمة، المهم أن تبقي رمزًا للإباء. وقفت العائلة مستنفرةً إلى جانب البروفيسور، وقفة الرّجل الواحد، أحبت أن تكون إلى جانبه في محنته.

والدتك وحَماتك هاتان السيّدتان الصّابرتان اللتان فارقتا رجلين عظيمين، لم تفارقهما الأحزان. أشعل القدر اللئيم من حولهما نيران الحُرقة اللاسعة، فتحولت حياتهما إلى جحيم من المآسي. إخوتك وأخواتكِ لبّوا نداء الأخوّة لخدمتكِ، لأنّك خدمتِهم بحُب... راعيت ظروفهم، فراعوا ظروفك العصيبة ولم يفارقوكِ للحظةٍ واحدة.

إشبينتك وشقيقتك الكبرى نزلي كانت حوض الشّجاعة، الذي احتوى أنّات وعذابات شقيقتها الصّغرى، احتوى الرّجاء والدّعاء وأمنيات الشّفاء، احتوى هَمًّا كبيرًا، كاتمةً لواعجها. لم تكوني يا أمل مجرّد امرأة نائمة على سرير الأوجاع، إنّما أميرة نائمة على سرير الأساطير، فصراعك الطويل مع المرض كان أسطوريًا وبطوليًا.

رفيقتكِ وحبيبتك السيدة المذهلة سهير عزّام زوجة الدكتور كميل لم تفارقكِ، بل كانت إلى جانب سريرك طيلة فترة مرضك الأخيرة، كانت يقظة متيقّظة، غدت مجسًا حساسًا لكل حركة لا إرادية منك. شعرتِ بوجودها حتّى وأنت في غيبوبة... فكنتما شبيهتين في القوام... توأمتين في التّصرفات... متفهّمتين لأمور الحياة. 

حدثتِنا عن مرضكِ، والابتسامة لم تفارق وجهكِ، وكأنّه طفل مشاغب يضايقكِ تارة، وتارةً يبتعد عنك، ويعود لينكّل بجسدك بقوة أكبر، ورغم كل هذا لم تشتكي منه. وداعكِ لم يكن وداعًا لامرأة عاديّة، بل كان وداعًا جارحًا لسيدة وُلِدَت للحياة، ولَّدت فينا طاقة الحيويّة... أنت الابنة البارّة لهذا المجتمع، السيّدة الواعية التي أحبَّت العِلم، وأوشكت أن تعرض خدماتها على المجتمع في مجال علم الوساطة، ولكن لعنة الظروف كانت وسيطة بينك وبينه.

عشنا يا أمل مع حكاياتك الطريفة المليئة بالمتعة، لأن في سردك كان تشويقًا، عيّشتِنا في جوك التعليمي. كنت غادة العائلة، فكلّما حضرتِ أو ذهبتِ أغدقتِنا حبًا وعطفًا، رسمتِنا في فكركِ النبيه النادر، لوحات غنيّة بألوان المودّة والألفة، أظهرت لنا جوهركِ الأصيل المتحدّر من عائلة عريقة، معروفة بشدّة تمسّكها بالعادات والتقاليد... غنية بعزة النّفس... نبيلة بالتواضع، كريمة بالعطاء... متشبّثة بالأصول والأعراف... عائلة منارة في الأخلاق.

كنت بسيطة المظهر... لطيفة المعشَر... حلَّقتِ كالفراشة بمنتهى الخفة في أنحاء البلاد... كم لاطفتِ الصّغار فأحبوكِ، سايرتِ الجميع فعشقوكِ، أحببت مجالسنا ومجالستنا. ما زلت أذكُر عندما صافحتِني بشدّة، آخر مرّة رأيتكِ فيها... عندها أحسَستُ بقوة انصهار جسدك المنهَك فينا. صراعُك مع المرض، يذكّرني بقصّة الشّيخ والبحر، الذي لم يستطِع أن يتحدّى أمواج البحر، إلى أن هزمه جبروت الطبيعة، مثلما أنت لم تستطيعي الصمود أكثر أمام موجات المرض، فهزمك جبروت القدر.

جنازتك لم تكُن عاديّة بتاتًا، فرافقك الآلاف... توافد المعزّون من كافّة مدن وقرى الوسط العربي واليهودي، كي يقدّموا واجب العزاء. حمل المشيّعون نعشك فوق سواعد الوفاء لذكراكِ، ودخلت الحياة الأبدية. رصّعنا دربك الأخير بأجمل الذكريات لتبقَي في ذاكرتنا خالدة بأبهى حلَّة وصورة.