[x] اغلاق
في ذكرى رحيل الأستاذ أنطون نصري عبّود
8/3/2013 11:51

في ذكرى رحيل الأستاذ أنطون نصري عبّود

لــن نودِّعَك أيهــا المعَلِّــم

بقلم: مارون سامي عزّام

استلَّ سيّاف القدر سيف الفراق من غمده، وقَطَعَ حبال تعلّقنا بالأيّام العاديّة، وأسدَلَ ستارَ الموت فجأةً على الأستاذ أنطون نصري عبّود، دون أن يُراعِي مسار عمره المتبقي له، وأدخله في أقصر طريق إلى الآخرة، بعد أن كانت طريق عودته الأخيرة إلى بيته الدّافئ طويلة وممتعة، لَكنّ شرطة القضاء والقدر، أوقفته عنوةً عند حدود شارع الوداع المكتظ بالمآسي والخوف، وأنزلته في هوّة الموت.

عاش الأستاذ أنطون حياته متأقلمًا مع الظروف، فلم يتأفّف مرةً من أي طارئ أسَري، كان واجهة للأمل والسّعادة، فكل من مرّ أمامها، ازداد إعجابًا بها... كلُّ من عرفه بُهِر بمعاملته اللطيفة، كما دأب على توطيد عشرته الطّويلة مع جيرانه من الطّائفة الدّرزية، الذين بادلوه بالمِثل، وما زالوا أوفياء لهذه الجيرة. كما تَواصل معهم يوميًا، واعتبرهم من أهل البيت، واعتبروه أخًا كريمًا، ورمزًا حقيقيًا للجار الوفي، الذي سعى دائمًا للحفاظ على الجذور التّاريخيّة لهذه الجيرة.

تحليت يا أبا نصري بالابتسامة التي انسابت بتلقائيّة في ملامحك. كنت شفّافًا وصادقًا مع الآخرين، مجبولاً بالود، هامتك مكلّلةً بعزّة النّفس والكرامة، حياتك العامّة كانت عامرة بالمساعدة وخدمة جميع من قصدك، سواء بالبيت أو هاتفيًا، عندما كنت أهاتفك، لآخذ منك بعض المعلومات حول مكتب الترخيص، اهتممت بي كثيرًا، لأنك اعتبرت بيتنا امتدادًا أسريًّا لهذا البيت، لأنّ أجواءه ما زالت تعبق بذكرى الوالدة الرّاحلة أم أنطون، التي كانت صورةً حيّة للجدّة الراحلة ماري عزّام.

كانت القناعة جزءًا من مفاهيمك الأساسية، مخافة الله كانت مبدئًا ساميًا لديك، فأشعلتَ نار الصّبر فوق جِمار الهموم، لأنك آمنت أن الفَرَج آتٍ، حاملاً معه مفتاح الأمل، ليفتح لك أبواب التفاؤل... سهرتْ أسرتك بجانبك، لعل أعجوبة ما تحدث لتوقظك من غيبوبتك، وزرعت حولك بذور الآمال، حتّى تُزهر حيويتك الربيعيّة من جديد، ليجري حنانك وعطاؤك في عروق أولادك، فتتفتّح أساريرهم الواجمة. زوجتك سهيلة الصّابرة المتأثّرة من رحيلك، كانت شمعةً مضيئة، أنارت لك ظلمة الأيام، كان من الصعب عليها أن ترى جسدك القوي، مُلقىً على قارعة المجهول، لأنها لم تَكن لتصدِّقَ أبدًا أن هذا الجسد الذي قاوم كلَّ عارض صحّي، عجِزَ عن مقاومةِ مصيره المحتوم.

أولادك يفتقرون لحضورك الجميل، لأنك عاملتهم معاملة الأصدقاء، ربّيتهم على الألفة، فكانت دعابتك أرجوحة مرحهم في كل مناسبة. لاعبت أحفادك برقتك وتحنّنك عليهم، فغمروك ببراءتهم وحُبّهم. في الأفراح العائلية الخاصّة، فضّلتَ أن تكتب أسماء المدعوّين للفرح على المغلّفات، بخط يدكَ الرهيف والرّائع، لأنك عشقت جمال اللغة العربية وقواعدها.

جمَعت إخوتك حولك أسبوعيًا، في ديوان لهفتك عليهم، كي تطمئنّ على أحوالهم، فالتقوا تحت سقف رعايتك، واعتبروك راعيًا أمينًا لتطلعاتهم. شقيقاتك اعتبرنك المستشار الأعلى لهنّ، فكنت حاضرًا معهن في كل مناسبة، أصغين جيدًا لنصائحك الثّمينة، التي سيحفظنها في خزنة ذاكرتهن مدى الدّهر، لأنها سبائك وفاءٍ تسطع شوقًا إليك.

ولدك نصري فجعه رحيلك، إنه نسخة منك، تحمِلُ مواصفاتك الفكرية. اكتسب منك كيفيّة تعليم الطلاب أسهل طرق فهم قوانين السّير نظريًا. أحبّ نصري هذه المهمّة الإرشاديّة... بفضلكَ بات أحسن مُعلّم لقوانين السير النظرية، وأنتَ علّمتهم السواقة عمليًّا، ليفهموا آدابها وأخلاقياتها على الشوارع، واليوم نصري أخذ مكانك خلف مقود السيّارة ليُكمل مسيرة التعليم العملي للسياقة، وأخذ مكانكَ أيضًا خلف مقود إدارة المنزل، لكي يُدير الشؤون الحياتية اليومية ومتطلباتها.

أبا نصري! إنّنا لم ننسَ أن والدك الرّاحل الأستاذ نصري، كان أحد المعلمين الأوائل، فَسِرتَ على دربه، وامتهنت مهنة التعليم، فكنت معلّمًا بارعًا ومثالاً يُحتذى به. إلى اليوم يَغلِب عليك لقب "الأستاذ"، فجميع من التقيتُ بهم، يَذكرون هذا اللقب، كما ويتذكّرون مسيرتك التعليمية في مدرسة الكاثوليك. الطلاب الذين تعلّموا عندك السياقة، أتوا إليكَ لأن تجربتك التعليمية الغنيّة، انحفرت على لوحة تقديرهم لك، فكانت وستظل الأبقى والأفضل أسلوبًا، لهدوئك المدهش، وتروّيك في إرشاد الطلاّب.

أعذرنا أيها المعلّم الفذ، فالدّموع التي انهمرت من عيون أسرتك ومحبّيك، هي قطرات أسى، تلمع فيها صور تضحياتك. الحسرة لوّعت قلوبنا، إذ اقتطع الموت جذع عمرك مبكرًا من جذور صمودك. انطلقت فراشات الربيع نحو سماء أبديّتك، حيث الفرح الإلهي.

بَعدَ أن ودّعنا موكبك الجنائزي، يصعب علينا أن نودّع أيضًا موكب ذكرياتنا معك، فإنه يسير في درب ذكراك، لكي تستقبلك الملائكة، المحمّلة بذخائر الرّحمة، فتُجلسك على كرسي الخلود إلى جانب الصّدّيقين الأبرار.