[x] اغلاق
الفراق
22/3/2013 13:52

 

الفراق

 

الفراق نار ليس للهبه حدود،لا يحسّه الاّ من اكتوى بناره.

الفراق لسانه الدموع وحديثه يجوب السماء !

 

اه يا جدّي لقد فارقتنا نحن محبيك، وكم عزّ علينا هذا الفراق ، لقد كان اشبه بخروج الروح من الجسد، لترافق روحك، حتى لا تذهب وحيدة، فقد عهدناك دوما لا تحب الوحدة، بل كنت تحب الجمعة الطيبة، كنت تحب محيطك، عندما نكون نحن امواجه، اصدافه وحتى اسماكه.

ولكن! ما عساي اقول، الى من اشتكي، ولمن اناجي اذا ضاقت بما فيها الصدور. لا تحسب فراقك بالامر السهل، فهو قاتل وموجع، ويملأ القلب بالكثير من العذاب، لقد حرمتنا ملقاك الذي كنا دوما متعطشين له، والان ماذا برحيلك؟ وكأنك رميتنا في صحراء، لنضيع اربعين سنة أو اكثر، حرمتنا وجهك ومبسمك، الذي كان دوما ينير هذه الحياة، فقد فقدناك، ليس نحن فقط اهلك، بل بلدتك بأكملها، فقدت بطلا من مواطنيها، قدّم الكثير لهذه البلدة وشبابها، بدأ بهذه المسيرة منذ ان كان استاذا ومربيّا للّغة العربية، حيث كان بقمّة الروعة بالتعليم، زرع اللّغة العربية داخل النفوس ولم يكتف، بل حرص على تربية هذه النفوس بالشّكل الصحيح، حيث لديه افضال على كثيرين، وتابع مشواره ليكون استاذ سياقة، يعلّم الشبّان وهو ممتلئ بروح الشباب، يذهب الى عمله بقمة الاناقة والنشاط، يعمل حبّا لمهنته، وطلابه ممزوجة باخلاص كامل، حيث جذب الكثيرين اليه، فكان الجميع يحبك لطيبتك ورقّة معاملتك واتّقانك لأداء عملك، مثلك لا يوجد الكثير، فأنت كنت محبّا للجميع لهذا الجميع حزن لفراقك، حزنت البلدة بأسرها من الصغير حتّى الكبير، فلن نجد من يسرع لتقديم المساعدة مثلك قبل الجميع، من لا يخفي مبسمه حتّى بأشدّ اللّحظات قهرا في حياته، فلماذا أخذك منّا هذا الموت اللّعين ؟ لا استطيع استيعاب المسألة، لأن هذا الامر يقهرني ويجتاحني الغضب ويعتصرني الألم، فلذلك الذي عشت في حضنه، وتحت اشراف تربيته، وترعرعت منذ صغري وحتّى يوم فراقه الى جانبه، وملأت قلبي حبّا واخلاصا له، لا استطيع ان استحمل أو أن اتخيّل فكرة غيابه ألأزلي، كيف رحل عني وأنا احتاجه! بنصائح من سأغتني بعد اليوم؟ لما حرمني متعة مناداته بجدّي! فيا لها من سعادة في تلك الاوقات، التّي كنت اتردّد بها الى منزله، وأجده مسند الظهر. عظيم الهيبة، ظاهر العفّة وجليل القدر، كان يومها يحلق بي السرور الى اعالي القمم، ويعيدني لأكون بين ذراعي جدي، اتمتع بحديثه العذب الرّزين، حيث انه زرع بذرة بداخلي اسقاها بدموع عينيه، وغذاها بقطع احضرها من صدره، لتكبر وتثمر ثمارا تحمل حبّا عميقا وامتنانا شديدا لهذا المربّي الصالح.

فيا لها من افكار تهلكني، صعب تخيل الحياة بدونه، حيث انني التي كان قلبي ينفتح عند سماع صوته، كالازهار التي تتفتح عندما تشعر بقبلات الصباح تداعب اوراقها، فكيف للصباح ان ينبع في سمائي، ماحيا ظلمات كابتي، بعدما غابت شمسه وهو جدي! ولكن هكذا هي الدنيا، بكل ما تعطيك تسلبك ما هو اغلى، وها هي سلبتنا اغلى ما لدينا، الشخص الذي لا يرد طلبا خائبا، كان دوما منصاعا للطلبات حبا في تقديم المساعدة وليكون هو صانع الفرحة، التي ارتسمت على وجوهنا بابتسامة، التي كانت دوما بفضله فكرمه ملأنا من اسفل اقدامنا حتى اعلى شعرة برأسنا، لكن ما عساي اقول! فقد فقدته، فقدت جدي الذي اهدى لي ولاخوتي طفولة سعيدة ساعيا بكل جهد لتحقيق ذلك وبلوغ هدفه، فكان ما يكفيني انه منحني حظ التردد اليه، وكوني املك هذا الجد الرائع، الذي لا مثيل له، والذي لن يعاود احد ان يكون وريثا له بأداء هذا الدور باتقان واحتراف! حيث ان جدي منسوب الحكمة، زاهدا في بهارج الحياة وقشورها، يحيى بتعايش سلمي مع الطبيعة، مع جيرانه، مع المقربين منه، ومع بلدته بأكملها. لقد عبر هذه الحياة ناصع البياض الى كفنه الابيض، فموته كان اول علاقة لي بفاجعة الفقدان، ولاول مرة ادرك ما معنى الحرمان، وها انا احاول كل يوم الاعتياد على فكرة غيابه، لكنه ليس بالامر السهل، فكل يوم ارغم نفسي على ان ابتلع دموعا، لا اريد ان احتسيها بحضرة احد، وكل ليلة انام عارية من صوته، ارشاداته، ومواعظه، فلم ادر اية كلمة اختار لوصف حدث موته، فهذا الموت استباح نبل جدي، وأعدم بهجة حواسه، وإغتال شهيته للحياة، فكل كلمات الموت مجتمعة، لا تكفي لوصف عبثيّة رحيله الأبدي، ولكن هذا ما يعرف بالقدر فعلى الانسان ان يرضى بنصيبه ويبتسم للدنيا حتى لا تديرظهرها بوجهه متجاهلة وجوده ضائعا في تعاسته ومتعبا من هم الحياة، فالقدرمكتوب بحروف من ذهب، لا يتغير مهما رفضناه ومهما حاولنا تغييره، فهو ثابت لا يمحى عذابه إلا بالاعتياد والنسيان!!

 

 

 

نص الكلمة التي ألقتها ليان غسان عبود، حفيدة الأستاذ أنطون نصري عبود في قدّاس الأربعين بتاريخ 15/3/2013