[x] اغلاق
الكوميديا السّوداء في عجايب يا صندوق لزياد شليوط[1].
9/9/2013 14:59

الكوميديا السّوداء في "عجايب يا صندوق" لزياد شليوط.

                                                                      د. محمّد صفوري- شفاعمرو

  

        "عجايب يا صندوق" كتاب جديد للكاتب الشّفاعمريّ زياد شليوط، هو عبارة عن مجموعة مقالات في السّياسة والمجتمع، يصل عددها إلى ستّة وثلاثين مقالا بأحجام متباينة. يصوّر فيها الكاتب مجموعة من المشاهد البانوراميّة المنسولة بحذق وحنكة، من مجالات الحياة المختلفة، يصبّ معظمها في ميدان السّياسة إذ يصل عدد مقالاته السّياسيّة إلى نحو عشرين مقالا، ينثني الكاتب بعدها ليرصد بعض الآفات الاجتماعيّة متطرِّقا لسلوكيّات سلبيّة عديدة، ويعرِّج في بعض المقالات على حقل التّربية والتّعليم مشيرا لبعض ما يكتنف هذا الحقل من فساد ومظاهر سلبيّة.

 

   تدلّ مقالات المجموعة على الفكر الثّاقب الّذي يتميّز به الكاتب واطّلاعه الواسع على كثير من الأمور المستقاة من مجالات مختلفة، فيعرضها بجرأة أخّاذة قد لا نجدها عند كثير من الكتّاب؛ إذ يوجّه الكاتب سهام نقده للسّلطة المركزيّة ورجالاتها مرورا بالسّلطة المحليّة في المجتمع العربيّ، متحوّلا إلى سياسة الدّول العربيّة وزعمائها وأقرانهم من زعماء العالم حتّى تستحوذ الثّيمة السّياسيّة على مساحة واسعة من الكتاب.

   يرصد الكاتب عمليّة الانتخابات للكنيست الإسرائيليّ موضّحا تشتّت الأحزاب العربيّة وعدم اتّحادها معا؛ لتشكّل قوّة سياسيّة مؤثّرة (أبشر يا زياد! فقد يوحّدهم قانون نسبة الحسم الّذي سنّته الكنيست مؤخّرا!!)، إضافة للحرب الكلاميّة المستعرة والدّائمة بين هذه الأحزاب حتّى غدا الحزب العربيّ الآخر، هو الخصم لا غيره من الأحزاب الصّهيونيّة الّتي ما إن تنتهي عمليّة الانتخابات حتّى تنفض عنها غبار الخصام، وتأتلف معا رغم تباين أفكارها ومواقفها؛ لتجلس معا في حكومة واحدة، وفي المقابل تتّسع هوّة الشّقاق بين الأحزاب العربيّة، وتزداد نفورا عن بعضها.

   يتحوّل الكاتب، في مقالات أخرى، ليرصد عمليّة الانتخابات للسّلطة المحلّيّة في الوسط العربيّ، فيجدها أكثر حدّة وشراسة؛ إذ تكشف المقالات عن العهر السّياسيّ وما يفرزه من مداهنة، كذب، ورياء؛ تحقيقا لمآرب شخصيّة، ممّا يؤكّد غياب الوعي السّياسيّ لدى كلّ من المرشّحين والنّاخبين؛ فلا احترام للآخر ولا المختلف، وعليه تنهار العلاقة خلال الانتخابات وبعدها بين النّاس، ويصل خطرها لتغزو حياة الأسرة الواحدة فيغدو أفرادها قريبين جسما متباعدين نفسا، لا تقوم لهم أيّ مصلحة مشتركة، وفي هذا تأكيد واضح لغياب الوعي السّياسيّ بين أفراد المجتمع.

   يبطّن الكاتب مقالاته بما يسمّى " الكوميديا السّوداء" معبّرا عن سخطه ونفوره من مشاهد وسلوكيّات سلبيّة كثيرة، فيوظّف بعض الأحداث محليّا وعالميّا؛ ساخرا من مواقف عديدة كسخريته من تعامل السّلطة في إسرائيل مع الإنسان العربيّ، والتّمييز العنصريّ الّذي يعاني منه العربيّ في هذه البلاد، حتّى يصل به الأمر إلى أن يتمنّى لو تعامله السّلطة كما تعامل أمواتها كما يتبيّن للقارئ في مقال "يا هنانا في دولتنا"(ص: 48). ثمّ يربط بين حذاء أبي القاسم الطّنبوريّ وحذاء العراقيّ منتظر الزّبيديّ، ذلك الحذاء الّذي هوّم حول رأس الرّئيس الأمريكيّ جورج بوش؛ مصوّرا نتائج السّياسة الأمريكيّة الّتي تنتهجها الدّولة العظمى مع شعوب العالم المستضعفة، وذلك في مقاله "من حذاء الطّنبوريّ إلى حذاء الزّبيديّ" (ص: 60).

   يلتفت الكاتب في مقالات أخرى إلى كثير من الآفات الاجتماعيّة الّتي ينوء تحتها مجتمعنا العربيّ، مواصلا نقده السّاخر لسلوكيّات سلبيّة كثيرة كالشّقاق الّذي ينشب بين أبناء المجتمع العربيّ حول بطولة الأمم في لعبة كرة القدم (المونديال)، وما يفرزه ذلك الشّقاق من نتائج تعود بالويلات علينا، ولا ناقة لنا ولا جمل في كلّ ذلك، أو ظاهرة استحواذ الجهاز الخليويّ (البيليفون) على حياتنا حتّى صار سيّد كلّ موقف، والتّنكّر للقيم العربيّة وضربها بعرض الحائط متمثّلين بالمجتمعات الغربيّة، وكذلك ظاهرة الاهتمام بالكم الّتي تتجسّد أمامنا في ميادين الحياة المختلفة.

   من أبرز الظواهر المؤرّقة للكاتب هي ظاهرة التّنكّر للغتنا العربيّة والهرولة نحو لغات أجنبيّة وخاصّة اللّغة العبريّة الّتي استحوذت على لغة كثير من أبائنا، فنجد بعضهم يغيّر اسمه العربيّ إلى اسم عبريّ تحقيقا لأهداف مختلفة، مثلما نجد في مقال "اسمي مصيبتي" (ص: 51- 52)، ونسمع كثيرا من متحدّثي لغة الضّادّ يتشدّقون بكلمات عبريّة، خاصّة المثقّفين منهم؛ ممّا دفع الكاتب إلى تقليدهم ساخرا من تلك الظّاهرة الّتي تعمل على تقويض اللّغة العربيّة، كقوله: "وبما أنّ المثقفين في مجتمعنا أكثر حتلنة، فهم (معودكنيم) بالاختراعات"(ص: 84). ونجد حضورا بارزا لهذه الظّاهرة في عدّة مقالات، الأمر الّذي ينبئ بالخطر، وينبّه إلى ضرورة تدارك الأمر.

   لا يسدل الكاتب السّتار على كتابه قبل أن يوجّه نقده لجهاز التّربية والتّعليم في الوسط العربيّ، فيصوّر كيف يستخدم المعلّمون وسائل إيضاح قديمة وبالية لا تغني ولا تسمن من جوع، وكيف يتوانى المسؤولون عن استبدالها بوسائل أكثر ملاءمة ونجاعة. ويسخر في مقال "المعلّم المثاليّ"(ص: 80 – 82) من سلوك بعض المعلّمين الّذين لا يشغلهم تطوير عملهم واستفادة طلابهم، بقدر ما يشغلهم الرّياء والنّفاق والفساد، حتّى باتوا عيونا للسّلطة، أو أذنابا للمدير أو الرّئيس، أو أيّ مسؤول آخر.

   أمّا على المستوى الفنّيّ فتعكس مقالات المجموعة المستوى الثّقافي الّذي استقاه الكاتب من مجالات عديدة. يوظّف متناصّات كثيرة يمتحها من الموروث الثّقافيّ العربيّ قديما وحديثا؛ دعما لما يذهب إليه، أو زيادة في السّخرية وتصوير ما ينفّر من سلوكيّات سياسيّة كانت أو اجتماعيّة، كذكره للشّاعر عمرو بن كلثوم، الجاحظ، المتنبّي، أحمد أمين، نزار قبّاني، محمّد الماغوط، إميل حبيبي، وغيرهم. ويلتفت الكاتب إلى الأغاني والموسيقى العربيّة، فيوظّف ما شاء منها كأغاني عبد الحليم حافظ، وديع الصّافي، وملحم بركات؛ لإضفاء مزيد من السّخرية على مقاله. ويعمل في مواضع أخرى على استلهام بعض النّصوص التّدريسيّة والقصص التّراثيّة، متأثّرا بتجربته الغنيّة في سلك التّعليم، كقصّة حذاء الطّنبوريّ الّتي يربطها بحذاء الزّبيديّ كما تقدّم. ثمّ يعرّج على الموروث الدّيني فينهل منه بعض المتناصّات الّتي تحقّق هدفه من المقال، مثلما يفعل، وهو يوظّف قصّة يهوذا الأسخريوطيّ  وخيانته للسّيّد المسيح، جاعلا منها معادلا موضوعيّا لمن يخون شعبه، مهرولا نحو الأحزاب الصّهيونيّة حسبما يظهر في مقاله "أحزابنا انتصرت" (ص: 13 – 14). ويوظّف في معظم مقالاته عددا كبيرا من الأمثال والأقوال الشّعبيّة الّتي تضفي على المقال مسحة من الفكاهة المبطّنة لسخرية لاذعة من شأنها أن تدفع إلى البكاء بدل الضّحك، الأمر الّذي يؤكّد ظاهرة الفكاهة السّوداء الّتي يلتقيها القارئ في مقالات عديدة.

   تكشف المقالات عن توظيف الكاتب لبعض آليّات الفنّ القصصيّ، إذ يصوغ مقاله تارة في قالب سرديّ (مقال مرض الكرسيّ، ص: 43- 44)، وطورا في قالب حواريّ (مقال الدّكتاتور يدمقرط، ص: 45)، مستفيدا بذلك من تقنيّات هذا الفنّ. يتجلى بعضها في اختيار أسماء الشّخصيّات الّتي تعكس تناقضا بارزا ومقصودا، كاختياره لاسم "منحوس المسعوديّ" واسم "متعب بن مرتاح" في القصّتين المذكورتين أعلاه، وفي هذا ما يكثّف من ظاهرة السّخرية، ويعمل من ناحية أخرى على التّآلف بين الشّكل والمضمون.

   على المستوى اللّغوي يعمد الكاتب إلى توظيف لغة تقريريّة معياريّة تنسجم ولغة المقال بصورة عامّة، وتتلاءم مع مدارك القرّاء من الجمهور العريض؛ رغبة في إيصال رسالة الكتاب للجميع، إلا أنّه يتوانى أو يسهو عن تدقيق الكتاب نحويّا، فيقع في بعض الهفوات النّحويّة الّتي تطلّ على القارئ من مواضع عديدة كقوله مثلا: "ولو كان لتلك الهيئة نظاما متعارفا عليه"(ص: 14)، والأوْلى أن يقول:  نظامٌ متعارفٌ عليه، وكذلك قوله: "سيكونون أعضاء مخلصون" (ص: 29)، والصّحيح أن يقول: سيكونون أعضاء مخلصين. ومما يؤكّد تسرّعه في نشر الكتاب وعدم مراجعته بصورة دقيقة، ذلك الخطأ الإملائيّ الّذي يلحظه القارئ في غلاف الكتاب، إذ يكتب كلمة رشوة بألف على شكل الياء "رشوى"، ولعله يقصد جمعها "رشاوى"، فسقطت الألف سهوا، والله أعلم. ويؤخذ على الكتاب أيضا ظاهرة تكرار بعض المضامين في مقالات عديدة، اللّهمّ إلا إذا كان الأمر مقصودا؛ نظرا لاستفحال الظّاهرة المرصودة، أو تنبيها من الخطر المحدق بالمجتمع.

   من الأمور الأخرى المثيرة في الكتاب ذلك التّصميم الموفّق - في اعتقادنا – للغلاف؛ إذ يكشف الغلاف عن بواطن الكتاب والمضامين المطروحة فيه بصورة عامّة، فيدرك القارئ من النّظرة الأولى إلى الغلاف أنّه كتاب يتناول بالدّرجة الأولى عمليّة الانتخابات وما تفرزه من عجائب يثبتها الكاتب في اسم الكتاب "عجايب يا صندوق"، ثمّ يتبعه وصفا موجزا قائلا: "مقالات ساخرة في السّياسة والمجتمع"، ناثرا عددا من المغلّفات حول صندوق أحمر، تعكس ما في عمليّة الانتخابات من شعارات جوفاء، صفقات، وعود، رشاوى، وفساد، حتّى ينضح الكتاب بما فيه.

   وفي الختام، فإنّنا نشدّ  على يدي الأخ والصّديق زياد شليوط، ونشجّعه على ما يتمتّع به من جرأة، ونظرة ثاقبة، وروح فكاهيّة ساخرة ومعهودة فيه، كلّ ذلك أتاح له تصوير واقع حياتنا، وما يلحظ فيها من آفات مجتمعنا العربيّ؛ ليدعونا إلى الإسراع في إيجاد العلاج المناسب لها.

شفاعمرو/ آب 2013

 

[1] . الكوميديا السّوداء هي كوميديا ساخرة تدور حول مواضيع تعتبر محرّمة عموما، يتناولها الكاتب بصورة فكاهيّة ساخرة مع المحافظة على جانب من الجدّيّة في الموضوع. تتضمّن مواضيع عديدة كالموت، الانتحار، الحرب، التّآمر السّياسي، العنف الأسريّ، المخدّرات، الجريمة، والخيانة الزّوجيّة ونحو ذلك.