[x] اغلاق
إيقاع
12/11/2013 12:58

إيقاع

بقلم: الكاتبة سعاد شواهنه/جنين/

بدا المساء مشلولا إلا من روحين تستندان في أعتاب ذكرى. وتقف كل منهما على مسافة من الاقتراب. هي باهتة بلا زينة، بلا عطر، تعصف بها أطياف خيبة غير مكتملة. فهو يحب قهوته دون سكر؛ لكنه يراعي ذوقها الخاص فيهديها خيبة بقليل من السكر.

       بضع سنتمترات تقف بينهما. وكفها تكابد ألم روحها، وتبقى عاجزة عن الوصول لمقبض الباب. مثقلة هي بالكثير. كم تتمنى لو أن لها أن تسند ظهرها على كاهل الباب، وتترك لروحها ممارسة شغب يكسر هدوء ليلها؛ لكن عيونها واثقة أنه لا زال يقف أمام الباب. فكيف لها أن تجافيه. أن ترفع عنه ثقل عتب جفنيها. أن تمنع نفسها و تمنعه من الاصغاء لدقات قلبها الصاخب، الذي بات أعلى من تعاقب دقات ساعتها المستندة إلى الحائط خلفها.

       ظل يقف ساكنا هادئا لا يقول كلمة واحدة. وقد صار يعرف أنها تقف خلف الباب، فما عاد يزعجها بضربات كفيه على الباب، وقرعه للجرس. تأمل درجا طويلا كان قد صعده ليصل إليها. وابتسم واثقا أن الوصول إليها أصعب. هو الرجل الذي لم يأت في وقته يوما. يقف منتظرا أن تفتح له أبوابها.

        يتأمل وجه الباب الخشبي، يمر بكفيه فوقه. يحدثه هامسا حريصا ألا تسمعه في وقوفها: " وأنت تقف بيننا الآن. وفي منزلها تسترخي قطع خشبية تودع كل منها ذاكرة لا تهملها؛ لكنها تنساني معلقا خلف الباب"

        حرصت هذا الصباح على إعادة صياغة أروقتها محتفية بحضوره. تتأملها الآن أماكن ساكنة هادئة. لم يسبق لأحدهم أن كتب فوق صفحاتها، أن سجل حضوره فيها. لا زالت تتكئ كطفل صغير في كل زاوية. لم يحبو بعد. لا يعرف النطق. لم يستكشف كونه. ويحيا لحظاته الأولى بلا ذاكرة. ابتسمت لأمكنتها الجديدة، وتركتها تغفو دون صخب.   

       يرى نفسه كما لفظته الدنيا في لحظته الأولى حدثا مباغتا، ترفا لا يثقل أحدهم غيابه. التقى بها حين ملت المواعيد والوجوه والكلمات. أحبها إذ أوصدت أسوار قلبها دون أي فاتح جاء يسجل في أيام عمره نصرا جديدا.

     جاء اليوم في غير موعده. لم يقصد مباغتتها. لا يريد أن يهديها خيبة ما. هو لن ينفق الكثير من الوقت في رأب ذلك الصدع في روحها. هو أراد أن يأتي متأخرا.

     يحب أن يقرأ لهفة أحدهم لحضوره. أن يرى في جفنيها عتبا. وعلى شفتيها ليتها ترسم بعض كلمات توبخ فيه توانيه عنها. ليتها تهديه هذا الشعور. هو الطفل الذي باغت الوقت في غير موعده. كان إذ ملت أمه طقوس الحمل والإنجاب. وعلى غفلة من مفكرتها السنوية جاء في شهره السابع؛ طفلا لم يكتمل نموه. ما من أحد قرأ على مسامعه آيات الترحيب؛ إلا حاضنة قضى فيها شهرين من الوقت عله يكتمل.

          سبقه العمر بأعوام أطفأت بريق كل ما يقول، كل ما يفعل، قال أنه يحبها إذ لم يعد لتقارب هذه الحروف واجتماعها معا ذلك الوقع المزلزل للروح. نطق كلمته الأولى طفلا دون أن يرى وجه أمه تلتفت إليه بلهفة. لم يرها تقترب منه وتكرر تلك الحروف الغبية مرارا عله يعيدها مشفقا على روحها. ترادفت لحظاته بعفوية. عاشها وقد اعتاد أن يراها عادية لا روح لهفة ولا بريق انتظار يزينها.

     تخفت ضربات قلبها. بات يسمعها بصعوبة من خلف الباب. والوقت يغير رداءه أمام عينيه. أجهد نفسه محاولا أن يكون عاشقا مختلفا. مارس شغبا في روح أيامها. نثر فوضى على صفحة روحها. تمنى لو أنها تلتفت إليه راسمة بسمة ما. أن يلون وجهها يوما بقلقها عليه. أراد لها أن تكون دواءه. أن ترفع عنه ثقل كل ألم كان.

    ساكنة هي تسند ظهرها للباب. كم تتمنى له أن يقرع الجرس فتفتح له الباب، لو أنه يقول: " لا زلت في قلبك، لا زلت هنا." هي تتمنى، وهو ملّ افتعال اللحظات ليحس حضوره في روح الآخرين. تأرجح بين حبال الغسيل. تعلق بالأشجار. ركض خلف كرته متناسيا صخب المرور. فعل الكثير عله يرى لهفة أمه، ويسمع ترادف صراخها حبا له.

    اليوم ملّ افتعال اللحظات. لن يفتش أسلوب جديد يكسر فيه روتين دروس يقرأها على مسامع طلابه. هو الذي لم يرى نفسه يوما إلا ببغاء غبية تتغير الوجوه أمامها. وهي لا زالت تعيد سرد الحكاية من بدايتها في كل مرة.

      غير الوقت رداءه في حضرته. هو المنسي خلف العمر. جاء اليوم بلا ترف، بلا زينه، بلا عطر. لم يتعمد أن يكون مذهلا. بدا واثقا من نفسه، من قلبه. لم يفتش عن هدية ما. تعمد الأمس أن يأتي متأخرا.

        ضاع صوتيهما والمدينة تتزين بصخبها. لم يكن حريصا هذه المرة إلا تسمعه؛ لكن صخب الوقت يقف بينهما:" ليتك تتركين لي أن أفتش عن عمر جديد معك في روح هذا الفجر. لو أننا نستقبله معا." وهي تجلس خلف الباب ولا زالت تتمنى. لكنه لا يقرع الجرس.