[x] اغلاق
ذكريات مع المربي المنقطع النظير
4/3/2014 10:46

ذكريات مع المربي المنقطع النظير

فريد وجدي الطبري – أبو جرير

قبل عشرة أعوام ونصف العام، وبالتحديد يوم الأحد 10.8.2003، توفي المرحوم الأستاذ والمربي والمحامي والقاضي الشرعي والإنسان المنقطع النظير – فريد وجدي طاهر الطبري، أبو جرير، عن عمر ناهز التاسعة والسبعين، طيّب الله ثراه وأسكنه فسيح جنانه.

   وكنتُ قد زرت المرحوم في بيته في الكبابير، يوم الأحد 22.12.2002. وبسبب مرضه، فإن المرحوم لم يتذكرني، بينما تذكر مدير المدرسة، المرحوم شكري الخازن وآخرين. وقال لي يومها "كلنا بدنا نكبر". وكعادته، طغت البراءة على ملامح محياه: مِنْ عَيْنَيْهِ تَشِعُّ بَراءَةْ – بَسْمَتُهُ طُفَيْلٌ أَخَّاذْ، أَخْلاقُهُ ما أَروع َكانتْ – فهوَ مَلاكُ بِشَكْلِ عِبَادْ !!

   وقد حضرنا جنازته في الناصرة (الشيخ الجليل صالح صبح أدامه الله وكمال ابن عمّي وأنا) وذلك يوم الاثنين 11.8.2003، حيث صلّى عليه فضيلة الشيخ صالح في الجامع الأبيض وووري جثمانه الثرى في المقبرة القديمة وسط الناصرة. وفي اليوم التالي قدّمنا التعازي في الناصرة (الشيخ صالح وابنه سعيد وصديقي فيصل الحصري حفظهم الله، وأنا). وقد أخبرني الشيخ صالح، أن المرحوم كان يتمنّى، أن يقوم الشيخ بالصلاة عليه صلاةَ الجنازة (كان الشيخ إمامًا في جامع الاستقلال بحيفا، وكان المرحوم قاضيًا شرعيًّا في المحكمة الكائنة في الجامع ذاته).

   كان المرحوم من طبريا، وكان محاميا شرعيًّا، ودرس القانون الشرعي في بيروت. وسكن في كفركما، وحينها كان محاضرًا في جفعات حبيبة. ثم سكن في الناصرة في حيّ الخانوق، وكان له مكتب محام شرعيّ في منطقة العين. ثم سكن في الكبابير في حيفا.

   قبل العام 1948، عمل المرحوم مترجمًا، من الانجليزية للعربية وبالعكس، في المحكمة العليا في القدس. وفي إحدى المرات، تعمّد عدم الدقة في الترجمة، حتى تتمّ تبرئة المتهم المناضل العربي. فأُشْعِرَ رئيس المحكمة بالأمر، فطلب منه إعادة الترجمة، فلم يعدّل المرحوم شيئًا في الترجمة الجديدة، واستقال من وظيفته. فحيّاه الله حيًّا وميتًا، ورحم التراب الذي احتضنه!! وهذا يذكّرني بأقوال قائدنا وزعيمنا المرحوم المسموم ياسر عرفات: "وما بدّلوا تبديلا"!! و "يا جبل ما تهزّك ريح"!! وفعلًا كان المرحوم أبو جرير، جَبَلًا، في شموخه وانتصاب قامته وارتفاع هامته، كما يقول الشاعر سميح القاسم حفظه الله.

   عام 1966 بدأ المرحوم يعمل في الكلية الأرثوذكسية العربية بحيفا، مدرسًا للغة الإنجليزية. وفي أوائل السبعينات عُيّن المرحوم قاضيًا شرعيًّا في المحكمة الشرعية في يافا، ثمّ في أوائل الثمانينات نقل للمحكمة الشرعية في حيفا، حيث كان قاضيًا حتى عام 1995. وفي عام 1976، وبينما كنتُ أدرس الحقوق في جامعة تل أبيب، استدعيت المرحوم من يافة تل أبيب، فألقى محاضرة باللغة الإنجليزية عن المحاكم الشرعية، فأَعْجَبَ وأَدْهَشَ زملائي والمحاضر البروفسور أفنير شاكي.

   وكان المرحوم قد فقد المرحومة زوجته، طيّب الله ثراها، عام 1991، وتمّ دفنها في مقبرة كفار سمير في حيفا، ودأب المرحوم على زيارة قبرها وقراءة الفاتحة لروحها، في أيام الآحاد.

   شارك المرحوم لمدة، في برنامج "عندي مشكلة"، من صوت إسرائيل بالعربية. وقد كان مُبدعًا في حلوله للقضايا العائلية، رحمه الله.

   ترجم المرحوم كتابا من الإنجليزية للعربية. وقد ألّفه الكاتب الأميركي جون جنثر عام 1948. وهو يحكي قصة مرض ووفاة "جوني"، ابن المؤلِّف، بسبب مرض السرطان، وله من العمر سبعة عشر عامًا !! واسم الكتاب "أيها الموت لا تفتخر:  "death be not proud. ومما جاء في ذلك الكتاب: "إنّ في النوم والراحة، وهما صورتك أيها الموت، لسرورًا كثيرًا. إنّك تقطنُ السمومَ والحروبَ والأمراض!!". وقد جاء في أسفل الصفحة الثانية عشرة من النسخة العربية، ما هو منطبق على حالنا هذه الأيام: "إن السرطان يجب أن يُهاجَمَ بشكل واقعي كما يُهاجمنا تمامًا. وإنه يتحتّم على جميع المتنورين من أبناء الجنس البشري أن يعملوا معًا في الصراع ضد السرطان".

   كان المرحوم أستاذنا، في الكلية الأرثوذكسية العربية بحيفا. وقال لنا مرة بأن اسمه الشخصي مركّب: "فريد وجدي"، واسم المرحوم والده "طاهر". وبصفته مربيًا لصفّنا، أجلسنا مرة في الساحة، وطلب لنا وعلى حسابه أربعين كأسًا من الشاي، من صاحبة المطعم المرحومة أم إلياس مطر ( وهنا أحيّي الأخت سميرة شيتي، ابنة بلدي أطال الله عمرها، التي كانت آنذاك تعمل في ذلك المطعم ).

   كان رحمه الله، عندما يتحدّث أحد التلاميذ، موجهًا الكلام إليه، كان طيّب الله ثراه، يضع كفّ يده خلف أذنه، مستعينًا بها على الاستماع عن بُعْد، محسنًا الإصغاءَ إلى المتحدّث، مُقدِّرًا إياه إلى أبعد الحدود، تماشيًا مع ما يقوله ابن قتيبة حول حُسن الاستماع.

   كان المرحوم يفضل الحزم على التردّد، إذ كان يُكثر من القول: don't  hesitate .

   كان المرحوم يريدنا أن نحفظ، مرة وللأبد، مُستعملًا القول: once and for ever.

   كان رحمه الله مُدْهِشًا، عندما يُحْدِثُ صوتًا مُنَبِّهًا، ناجمًا عن احتكاكٍ، بين إبهام يده ووسطاها، هاتفًا بإنجليزيتهِ الحلوةِ الجذابةِ المشبعةِ النُّطقِ – رحم الله التراب الذي لامس جثمان الناطق – immediately أي، حالًا !!

   بهدف تقويتنا في الإنجليزية، واستعدادًا للامتحان الشفهي oral exam ذي العلامات العشر، فإن المرحوم كان يعمل لنا تمرينًا يشمل عشرين سؤالًا وثلاثة تخمينات:            questions and three guesses twenty

   علّمنا المرحوم أغنيةً، مؤداها أن الحياة، ليست إلا حُلْمًا:

 

Row, row, row your boat
Gently down the stream.
 
 
 
Merrily, merrily, merrily, merrily,
 
 
Life is but a dream.
 

جدّف جدّف قارِبَكَ – بلطفٍ عِبْرَ الجدولْ

بمرحٍ وسعادهْ، فالحياة نعم موجودهْ – ولكنها ليست إلّا حُلْمًا !!

 

   وليجعلنا المرحوم متمكنين، من اللغة الإنجليزية، كان يجعلنا نقرأ، في الدروس، في صحيفة Jerusalem post .

   وليزيدنا قوة في الإنجليزية، علّمنا المرحوم جُملًا مُترجَمة من العربية للإنجليزية. ومن هذه الجُمل الْمُعَبِّرَة، أذكُرُ ثماني جُمَل:

 

 

1. إنّ أهل الشرق لا يعنون معظم ما يقولون. يقولون تفضّل شاركنا طعامنا وهم لا يعنون ذلك:

The people of the east don't mean the most of all what they say. They say share us our food and don't mean it.

وهذا يذكرني، بالمرحوم حسين دانيال، أبي العبد نفّاع، عندما دعا أحد أصدقائه إلى مشاركته في الطعام، وكان أمامه بيضة مقلية ورغيف خبز ليس إلّا. ولَمّا هَمَّ الصديق بالمشاركة، زجره أبو العبد قائلًا: إن الجواب على كلمة "تفضّل" هو "عشت"، فصارَ مثلًا شعبيًّا "تفضّلْ عِشْتْ".

2. كلّما ازدادت معرفتي بالحياة، كلّما ازددت حزنًا :    The more I know about life, the more sad I feel.

3. لو كان ذلك بالمستطاع لفعلته:                     Had that been possible, I would have done it.

4. مَرِّنْ إرادَتَكَ: train your willpower.                                              

5. مِن أمراضنا الاجتماعية، الحسد: Among our social diseases is envy.     

6. لو كنتُ مكانَكَ لاشتريتها: would have bought it.    If I where you, I

7. أنْ تتنافس مع شخص، هو أن تحاول أن تقلّدهُ، في عَمَل ما يَعْمل:

To compete with somebody, is to try to imitate him, in doing what he does.                                                                   

8. إذا سمحتْ لي الظروف فسوف أزورك:              If the circumstances allow, I would visit you.

 

 

طيّب الله ثراك ورحم التراب الذي ضمّك، وأسكنك فسيح جنانه.                                                                                                                     تلميذك                                                                                    صالح مصلح حماده - شفاعمرو