[x] اغلاق
عن الدّعوة إلى التجنيد والتجنُّد وما بينهما
22/5/2014 20:35

المقامَة الشفاعمريّة

عن الدّعوة إلى التجنيد والتجنُّد وما بينهما

بقلم: نبيل خوريِّة

أثارت أوساط مسيحيّة مشبوهة في الفترة الأخيرة، قضية في غاية الخطورة، لها أبعادها وإرهاصاتها على جماهير المسيحيين، أبناء الأقلية العربية الفلسطينيّة في هذه الدّولة وعلى مستقبلها وعلاقتها مع محيطها وباقي الطّوائف الأخرى، ألا وهي قضيّة تجنيد الشبّان المسيحيين في جيش الاحتلال الإسرائيلي.

غير خافٍ على أحد، بأن الذي يقف وراء هذه الدّعوة جهاز الأمن العام ومكتب رئيس الحكومة ومؤسسات الدولة المتنفذة، صاحبة العلاقة بالموضوع والتي وجدت في بعض المتعاونين وضعيفي النفوس من المسيحيين، عكاكيز رخيصة، لتنفيذ مآربها والمتمثّلة في سلخ المسيحيين عن أبناء جلدتهم وزرع بذور الفرقة والفتنة، بين أبناء الشعب الواحد.

ليست هذه القضية بجديدة ولكن إعادة إحيائها وإثارتها من جديد وفي هذا التوقيت بالذّات، هو الذي يُثير الكثير من علامات الاستفهام ولذا يجب الانتباه وأخذ الحيطة والحذر تجاهها.

إن الذي استفزّني وأخرجني عن طوري ودعاني لدبج هذه المقالة والتعبير عن موقفي والذي هو برأيي موقف السواد الأعظم من الناس الشرفاء أبناء الطائفة العربية المسيحية في هذه البلاد، هو مقال أو شبه مقال نُشِر في جريدة السلام المحلية في عددها الصّادر، يوم الجمعة 16/5/2014، ممهور بتوقيع السيد سهيل نمورة بعنوان "دقّت ساعة العمل". والسيد نمّورة لمن لا يعلم يتبوّأ (ولست أدري إذا كان ما يزال) منصبًا تنفيذيًا رفيعًا في المجلس الرعوي التابع لطائفة الرّوم الملكيين الكاثوليك في شفاعمرو، منصبًا ورِثه عن طيب الذّكر سَدنة الطّائفة الكاثوليكية ورجلها المجتمعي الأول، الرّاحل الأستاذ شفيق صبري عزّام، أبو زاهر، طيّب الله ثَراه.

لا أريد التطرّق إلى كل ما احتواه المقال البائس، آنف الذِّكر من تشويهٍ مقصود وزرع الفتنة وإثارة النعرات الطائفية البغيضة والتمجيد بحمد الدولة العليّة، فخلت نفسي أن صاحب المقال المحترم، يتحدّث عن دولةٍ أخرى، فهو يقول لا فُضَ فوه: "علينا أن نتعامل مع هذه الدولة بمودة ومحبّة وأن ننخرط في كل تركيباتها، لكي نصير جزءًا من هذا الجسم السليم"، يا سلام!!! عن أي جسم سليم تتحدّث؟! لست أدري...

بودّي أن أناقش هذه القضية الخطيرة التي طفت على السّطح في الفترة الأخيرة بهدوء وموضوعيّة، بعيدًا عن الشعارات الغوغائية الرّنانة وأبحث باتجاهين، الأول: تموضُع المسيحيين في الشرق العربي وفي هذه البلاد

إن المسيحيين العرب في هذا الشرق هم أبناء الحضارة العربية الإسلاميّة عاشوا مع إخوانهم المسلمين قرابة ثلاثة عشر قرنًا، فتقاسموا معهم، شظف العيش وهنائه، وساهموا إسهامًا لا يستهان به في صيرورة هذه الحضارة وبلورتها وذاذوا عن حِمى الدّيار أسوةً بإخوانهم المسلمين، فوقفوا مثلاً مع جيش صلاح الدّين الأيوبي في صد الحملات الصليبية في القرن الثاني عشر، تلك الحملات التي ظاهرها ديني وباطنها استعماري سياسي وفي العصر الحديث وبداية عصر النهضة والحداثة، كان للمسيحيين العرب دور كبير وثِقل هام، في بعث العلوم وتطوير المجتمعات العربي في لبنان ومصر وفلسطين وغيرها، فتبوّأوا مكان الصّدارة في بعث روح القومية العربية ونشر الفِكر اليساري الثوري، من أمثال قسطنطين زريق ومشيل عفلق في فترة لاحقة وكذلك (وأنا مضطر أن أقولها للرّد على التشويه للتاريخ) فإن قادة الأحزاب الشيوعية في العالم العربي وفي فلسطين تحديدًا (مؤسسي عُصبة التحرر الوطني) كانوا مسيحيين في حكم المولد، أمثال إميل توما توفيق طوبي، إميل حبيبي، بولس فرَح وغيرهم.

يقول كاتب المقال بأن المسيحيين في الدول العربية والإسلامية يتعرّضون للقتل والاضطهاد على يد الجماعات الإرهابية الإسلاميّة، قد تكون بعض الحالات صحيحة. ولكن من الذي زرع وربّى هذه الجماعات التي تدعوها إسلامية، لكنها في حقيقة الأمر إسلامويّة، بعيدة كل البُعد عن الإسلام الحنيف، إنها الدول الاستعماريّة (المسيحية) التي خلقتهم ورعتهم وزودتهم بآلات القتل والدّمار، لتنفيذ مآربها الاستعمارية وأطماعها الدفينة، فها هم يقتلون أيضًا أبناء جلدتهم ودينهم ويذبحونهم ذبح النّعاج. أين كانت الدول المسيحية يا سيدي العزيز عندما دُمّرت معلولا، تلك البلدة الوادعة في سوريا والوحيدة في هذا العالم، التي ما زالت تتحدّث الآراميّة لغة السيد المسيح، لم يَطرِفْ جفنٌ لهذه الدّول التي كانت سببًا في زرع الشّر، في العراق وسوريّا ولم تذرف حتّى دموع التماسيح، على المسيحيين وما آلت إليه أوضاعهم.

لقد كان للمسيحيين في العراق مثلاً، أيام حُكم الشهيد صدّام حسين، مكانةٌ مرموقة، فتمتّعوا بحرية العبادة وتبوّأوا مراكز حكومية هامّة، (طارق عزيز مثلاً) فجاءت أمريكا (المسيحيّة) ودمّرت العراق وزرعت الفتنة بين أبنائه وخلقت الإرهاب ونمّته وفي سوريا أيضًا كان لهذه الدول دور هدّام في مدّ وتشجيع الجماعات الإرهابية المعادية للنّظام، والجميع يعرف الدّمار الذي طال الأخضر واليابس والذي دمّر تلك الفسيفساء الاجتماعية الرائعة والنسيج الاجتماعي المثالي، الذي كان سائدًا في المجتمع المدني السّوري

الاتجاه الثّاني: الحقوق والواجبات... ميزان الرّبح والخسارة

لو رَكَنَّا العامل الوطني لرفض الدعوة للتجنيد في جيش الاحتلال جانبًا (وهذا من رابع المستحيلات طبعًا) وناقشنا هؤلاء الذين يتوهمون بأن المسيحيين العرب سوف يحصلون على حقوقهم كاملةً، في حال خدموا في الجيش، فأقول:

هل للمسيحيين في هذه البلاد امتيازات خاصة عن غيرهم من أبناء شعبهم؟ وهل يعاملون معاملة خاصة من قِبَل المؤسسة الرسميّة ويشعرون بأنهم مواطنون متساوو الحقوق؟

تطرّق مراسل مجلّة "الإيكونوميست" البريطانية، نيكولاس بيلهام في أحد الأعداد الأخيرة للمجلّة، ليقارن بين حياة المسيحيين في إسرائيل وفلسطين والامتيازات التي حصلوا عليها في كل جانب فيقول: "إن عددًا قليلاً من المسيحيين يحتلّون مناصب عليا في السلطة الفلسطينية، ربما يتجاوز نسبتهم المئوية من السكان، إلا أن هذا الحال أفضل من الوضع في إسرائيل، إذ يتبوأ عدد من المسيحيين مناصب في الوزارات والمجلس الوطني والبنوك والغرف التجارية والبلديّات، ويحضُر أيضًا الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس القداديس التي تتم في كل من عيدَي الميلاد والفِصِح، على خلاف ذلك في غضون الستة والستين عامًا الماضية، لم يكُن في الحكومة الإسرائيلية، أي متحدّث أو مسئول مسيحي. وفي الوقت الذي يمنع فيه الكنيست نصب شجرة عيد الميلاد، تمتلئ فلسطين بهذه الأشجار في الكثير من الأماكن العامة والخاصّةـ كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، لا يحضر أي من قداديس عيد الميلاد، إن المسيحيين في إسرائيل يشعرون بأنهم مواطنون درجة ثانية، فيتم تفتيشهم عراة في مطار إسرائيل ويتم رسم شعارات مسيئة لهم على أبواب الكنائس ويتم البصق على كهنتهم في القدس." إلى هنا اقتباس ممّا يقوله مراسل الإيكونوميست وأيضًا أريد أن أؤكد لهؤلاء الذين يربطون الحصول على الحقوق بأداء الواجبات، فأقول بأن إعطاء الحقوق لفئة سكانية معيّنة، غير مرتبط إطلاقًا بقيامها بأداء الواجبات، حسب مفهوم الدولة الحديثة والمتعارف عليها، كما صاغها فلاسفة النهضة الفكرية في أوروبا في نهاية القرن الثامن عشر وأيضًا أنظُر تصريحات عميد كلية العلوم السياسية في الجامعة العبرية، قبل عامين حول هذا الموضوع وللتذكير فإني أتحدّى فأقول: هل تأدبة الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، قد ضَمِنت لأبناء الطائفة المعروفية المساواة في الحقوق؟

لقد جرَّ عليهم قانون الخدمة العسكرية الإجباري الجائر الويلات، فليس فقط أنهم لم يحصلوا على حقوقٍ متساوية مع المواطنين اليهود، بل إنهم يحتلون المراتب الدّنيا، من حيث أعداد الأكاديميين وتوزيع الميزانيّات لسلطاتهم المحليّة وعن مصادرة الأراضي حَدّث ولا حرَج.

لقد تحدّى الراحل توفيق طوبي في إحدى صولاته في الكنيست في خمسينيات القرن الماضي، حكّام إسرائيل بأن أعلن (على سبيل التّحدّي وفضحهم) أن العرب على استعداد للخدمة في الجيش الإسرائيلي، فهل أنتم مستعدّون لإدخال عرب في الوحدات المختارة للجيش الإسرائيلي كسلاح الجو والبحرية؟ فصَمَتوا صمت أهل القُبور.

وفي الخاتمة أقول كان حريًّا على دعاة التجنّد في الجيش الإسرائيلي، لو طالبوا بتجنيد المسيحيين في جيش المسيح، كما أعلن آباء الكنيسة المحليين، فما كانت المسيحية في يوم من الأيام إلاّ دين محبّة وسلام وتسامح وليس دين قتلٍ واضطهاد للآخرين

 

 

"طوبى لصانعي السّلام فإنهم أبناء الله يُدعَون"