[x] اغلاق
وجوه شفاعمرية غابت.. لكنها في الذاكرة حاضرة (ج 1)
4/1/2015 14:10

وجوه شفاعمرية غابت.. لكنها في الذاكرة حاضرة (ج 1)

زياد شليوط

"فاذا رغبتم بالحقيقة في أن تنظروا روح الموت، فافتحوا أبواب قلوبكم على مصاريعها لنهار الحياة. لأن الحياة والموت واحد، كما أن النهر والبحر واحد أيضا".  (جبران- النبي)

ها قد طوينا عام 2014 بمساوئه ومحاسنه، وربما كان العام الراحل متميزا بسلبياته العديدة، التي فاقت ايجابياته، وبالتأكيد لن نأسف عليه كثيرا. في العام المنصرم غابت عن شفاعمرو وجوه متعددة ذات حضور قوي.. هزنا غياب بعضها وفاجأنا البعض الآخر، وتأثرنا لكل غياب وقع.. ويبقى الموت رغم مكروها رغم عدالته، ويبقى الموت سرا رغم وضوحه، ويبقى الموت مخيفا رغم بداهته.. فهل فعلا أن الموت والحياة أمر واحد كما قال الفيلسوف جبران؟ وهل حقا ما قاله سليمان الحكيم قديما بأن يوم الممات خير من يوم الولادة.. بمعنى أنه يمكننا أن نقرأ أعمال وآثار كل شخص ونحكم عليها بعد وفاته.. فاذا كان ذلك فعلا، فهذه محاولة لقراءة موت أو حياة من فارقنا من أصحاب الحضور العام، في العام الماضي من الشفاعمريين.. تسير تراجعيا من نهاية السنة الى بدايتها، وهذه هي الحلقة الأولى.

المرحوم حسن صبح (أبو سليمان الشراري) 16/12

وجه من وجوه شفاعمرو التي لا تنسى.. انه أحد أعمدة السوق القديم، الذي يشهد في الفترة الأخيرة، إعادة إحياء لأمجاده الماضية.. تعرفت الى وجه أبي سليمان في طفولتي الأولى، حين كانت ترسلني والدتي الى السوق إلى "السنكري أبو سليمان".. تحملني البابور ذا اللون الأصفر في قاعدته، تعلو من أسفلها ثلاثة قضبان حديدية مستقيمة، تعوج في أعلاها لتشكل قاعدة مستوية لتجلس عليها القدور، وتحتها الرأس وبداخله الفتلة المبللة بالكاز.. أصل الى العم أبو سليمان، فأجد أن دكانه مليء بالناس من مختلف الأجيال، الكبار يدردشون مع بعضهم ومع صاحب المحل، الذي يعكف على تصليح البوابير، ويطلب مني أن أنتظر، وبما أني طفل صغير علي الانصياع لأوامر الكبار بصمت، وأنتظر الى أن يجيء دوري.. كبرنا ومرت الأيام وليتها لم تمر.. ولم يعد السوق سوى ذكرى مؤلمة.

وبعد سنوات وجدنا العم أبو سليمان في أروقة البلدية يستقبل الداخل ويودع الخارج، ويسأل كل عن أهله ويحمله السلامات الحارة لهم.. وبعدما ترك عمله في البلدية كنا نقابله في أطراف السوق والشوارع العامة، بل كان يحضر الى حارتنا حين كان بمقدوره أن يصعد الطلعة الصعبة، ويزور بيتنا، كما يزور بيوتا كثيرة وحارات عديدة، كان يحن اليها، لأنه عرفها عن قرب وعرف كل ساكن فيها وكل حجر فيها.. كان يستعيد الذكريات الجميلة، ويسرد الحكايا من لسانه الذرق، وكم كنت ألتقيه في الشارع العام ويستوقفني ليسأل عن الوالدة، ويترحم على الوالد، ويحملني السلامات للأشقاء وأهل البيت، وصوته المميز ما يزال يرن في أذني حتى اليوم.

انه (أبو سليمان الشراري)، هكذا عرفناه وهكذا سيبقى في ذاكرتنا.. حيث لا يمكن للذاكرة أن تنساه، ويبقى احد الوجوه الشفاعمرية العصية على النسيان.

محمد مصطفى بركة (أبو الراوي) 16/11

      أبا المنازلِ يا عُبرَ الفوارسِ مَن           يُفجعْ بمثلكَ في الدنيا فقد فُجِعا

جاء رحيل الأخ والصديق (حمودي) كما تعودنا أن نناديه أيام الشباب المبكر، واسمه محمد مصطفى بركة، وكنيته التي اشتهر بها بعد زواجه (أبو الراوي)، مبكرا ومفاجئا، والجميع استذكر آخر مشهد رآه فيه وآخر حديث كان له معه، ورأى بعد الرحيل فيه اشارة خفية للوداع.. لقد فجعنا بوفاته وموته كما قال الشاعر فعلا فجيعة، لأنها كانت مفاجئة وفي غير وقتها..

حمودي أو أبو الراوي من الشباب المميزين في هذه البلدة، منذ نشأته المبكرة كان على وعي سياسي وانخرط في صفوف الشبيبة الشيوعية، وكنا نلتقي هناك في النادي، وهناك التقى بتوأم روحه ورفيقة عقيدته وحياته.. بقي حمودي وفيا لمبادئه وقناعاته، والأهم لماضي وحاضر ومستقبل شفاعمرو التي تشاركنا همومها وطموحاتها..

كل من عرف أبا الراوي عرف فيه الانسان المتواضع، المتزن، الكريم، المقدام، اللبق، لمس فيه ذاك الابن الوفي لشعبه وبلده.

وبعدما هصفت بنا التوجهات الحزبية وليس السياسية، بقي حمودي كما كان ولم يتغير، بقي صديقا وأخا عزيزا، كلما التقينا نتصافح ونتبادل الأحاديث المرحة والمتفائلة والمستندة الى واقع واحد ومستقبل مشترك نراه بقلق ولكن بثقة..وتوثقت العلاقة به أكثر بعدما التحقت زوجته الأخت نسرين بالمدرسة التي كنت أدرس فيها، وتوطدت من خلال اللقاءات والمناسبات المختلفة..  ويبقى في ذهني المشهد الأخير، قبل أسبوع من وفاته، عندما كنت أمارس رياضة المشي في أراض كانت يوما لنا، وباتت شوارع معبدة وملاعب واسعة لغيرنا، وعند أحد الدوارات توقفت مركبة كبيرة لتفسح الطريق لي لأعبر، وعند عبوري التفت واذ تحمل شارة "مدرسة المركز" للسياقة، ونظرت الى مقعد "المعلم" بجانب السائق المتمرن، واذ هو أبو الرواي وان لم أشاهد وجهه بوضوح، لكن تمكنت من رؤية ابتسامته العريضة ويده تلوح لي، وبادلته الابتسامة وتلويحة اليد وأكملت سيري.. وهل كنت أدري أو أتوقع أنها تلويحة الوداع.. لن أنسى هذا المشهد في حياتي، فوداعا يا صديقي المبتسم والى لقاء..

كانت صداقات أبو الراوي عديدة ومتشعبة.. وهناك عشرات القصص والنوادر التي لا نعرفها عنه، وسمع الأهل بعضها في أيام العزاء، قصص ومواقف تستحق أن تجمع وتوثق..

 وجه أبي الراوي المبتسم، النضر، البشوش سيبقى من الوجوه الخالدة بيننا، والتي لن تغيب وان غيب الموت ملقاه أو جسده..

الشاب المعطاء الياس نبيل صليبا 7/11

انتشر الخبر كالنار في الهشيم ظهيرة تلك الجمعة المشؤومة.. وعندما تساءل البعض من يكون؟ أشار الجميع انه "الذي يخدم في الكنيسة".. نعم انه الذي كنا نشاهده ديناميكا في جميع النشاطات الكنسية وخاصة في الصلوات والقداديس، الى جانب نشاطه في الترتيب والعمل التطوعي مع أصدقائه وزملائه الشباب، فحق القول فيه انه "ابن الكنيسة" الذي نذر نفسه لخدمتها وخدمة معلمها الأول ومؤسسها السيد المسيح، له المجد.

اهتم الياس ومنذ سنواته المبكرة بالعمل الروحاني الكنسي، وكان مرافقا للكهنة في الأسابيع الأخيرة بالتحضير للزيارة الرسمية الاولى لمطران الرعية الجديد، الأسقف جورج بقعوني الجزيل الاحترام، لمدينة شفاعمرو، اهتم بكل أمر مهما كان صغيرا وفي متابعة تفاصيل برنامج الاستقبال.. وبرحيله المفاجيء لم يخرج برنامج الزيارة الى الوجود بعد.. وفي الليلة التي سبقت رحيله، انضم الى طاقم الشباب الذي قام بتزيين الكنائس وساحة باب الدير، وكما يشهد أحد أولئك الشباب، فقد كان الياس في غاية الغبطة والسرور، ومنتشيا بعمل الشباب التطوعي الهام والكبير، وأعرب عن استعداده بالمساعدة والعمل معهم بكل لهفة وحرارة داخلية، فقد كانت غيرة بيته تأكله، ويتفانى في خدمة هذا البيت، حتى اللحظة الأخيرة من حياته القصيرة زمنيا، والعريضة بعمله وخدمته ومحبته وعطائه. 

كثيرون جزعوا أمام موت الياس، واعتبروا أن الدنيا باتت "مخيفة" بنظرهم، لكن الياس وقد كان من تلامذة المسيح في عصرنا، فهم الموت بشكل آخر كما رآه القديس بولس فالموت الحقيقي هو الخطيئة، بينما هو الآن حي في السماء، يتغلب على الموت مع ربه ومعلمه يسوع المسيح، ونسمعه يقول بلسان القديس بولس " أين غلبتُك أيها الموت؟ أين شوكتُك أيها الموت؟ إنّ شوكة الموت هي الخطيئة، وقوة الخطيئة هي الناموس. ولكن الشكر لله الذي يؤتينا الغلبةَ بربّنا يسوع المسيح." ( رسالة القديس بولس الأولى الى الكورنثيين 15: 55-57)

أنيس أيوب (أبو هاني) 2/11

وجه آخر يصعب أن تنساه.. عمل وخدم بلده وأهلها سنوات في أعقاب سنوات ولم يمل أو يشك.. منذ أيام طفولتي كنت أراه يدخل بيتنا ويجلس مع أهلي ويتحدث بطلاقة ولباقة، كما يتقن عمله بمهارة وكياسة، فقد ربطته صلة قرابة من بعيد –كما يقال- مع الأهل.. شاهدته يحمل "مفتاح المواسير" وسائر العدة اللازمة، يحل ويركب ساعات المياه، يتقن أي عطل في مواسير المياه، وعلمت انه يعمل مسؤولا في قسم المياه، لكنه مسؤول ميداني يجوب شوارع وأحياء شفاعمرو، لذا كان معروفا ومحبوبا من الجميع..

من أعمال أبو هاني التي اعتز هو بها وسجلها في سيرته: مد خط مياه لري أراضي الفلاحين من بئر مكوروت الى حي الميدان.. مد شبكة مياه الشرب في قرية طرعان.. مسؤول عن صيانة شبكة المياه في شفاعمرو.. مراقبا لأشغال الحفريات في بلدية شفاعمرو..

وبعدما انضم الى نادي المسن في شفاعمرو، كان في ذروة نشاطه اذا جاز لنا القول، (في الستينات من عمره) فلم يكن مجرد عضو أو نزيل في النادي، بل أخذ على عاتقه مسؤوليات جمة تطوعا، وخدم الأعضاء وجمهور المسنين، ووقف الى جانب الادارة متحملا نصيبا من المهام والمسؤوليات دون منة لأحد.

وقال فيه المربي نايف عليان، رئيس جمعية المسن، في مجلة "الجيل الذهبي" الصادرة عن نادي المشاة التابع للجمعية، في عدد تشرين أول عام 2002 ما يلي "ان هذا الانسان تطوع ونشط وعمل فوق طاقته في خدمة المسنين وتقديم مساعدات جمة لكل مسن داخل المركز اليومي وخارجه.. رعى حديقة الأزهار وحوض الأسماك وقفص العصافير، الأمر الذي يعمل على نشر الجمال والمناظر الخلابة التي تريح نفوس المسنين وكل من يتواجد في المركز".

أما أهم ما في حياته ربما كان الصيد، وقد عرفت فيه هذه الخصلة ونحن نتردد على بيته العامر، مجموعة من الأصدقاء الأخوة، الذين ربطتنا علاقة صداقة مع ابنه المربي سالم: كمال، فؤاد، ماهر، صالح ممن ابتدأنا مشوار التعليم معا.. وكنا نستمع اليه يحدثنا عن الصيد، والأهم "طقوسه الخاصة" في الصيد، فهو لم يذهب للصيد من أجل أن يصطاد فقط ويحدثك عن بطولات الصيادين الوهمية، انما عن "المتعة" التي يجدها في الصيد، حيث يأخذ معه "بطحة العرق" وبعض الطعام الخفيف، ومعه طاولة صغيرة (قبل أن نعرف الطاولات البلاستيكية المطوية) وكرسي، ويتخذ له موقعا جميلا وهادئا بين أحضان الطبيعة ويجلس الساعات هناك يناجي الطبيعة وينشد المواويل، فقد كان صوته جميلا وقويا أيضا، ويسرد لك القصص الممتعة وأنت لا تمل.

هل يمكن أن تنسى أبا هاني.. هل يمكن أن تنسى عطاءه وخدمته وحضوره.. أبو هاني وجه آخر من وجوه بلدي الباقية في الذاكرة.

(يتبع)