[x] اغلاق
ليل
14/1/2015 10:26

ليل

بقلم: الكاتبة الفلسطينية سعاد شواهنة - جنين

لم تكن تحاول أكثر من متابعة رسم لوحتها، تسمع صوت ألوانها تثرثر هاجسة بأسباب غيابها، وتهمس أحيانا شوقا لريشتها، أرسلت نظراتها إلى المكان، قلبت زواياه واحدة بعد الأخرى، لم تكن تبحث عن شيء في مكان ما، إلا أنه كان يهمها أن ترى روحها تطوف في الأمكنة، وتعي عبق وجودها في فضاءات أرادتها دوما ما يشبهها.

تسمع الجدران تراتب موسيقى يعزفها كعب حذائها وهي تثير عطر حضورها مجددا في الأروقة، تطالعها الكراسي وهي تبدو أطول مما اعتادتها، لم تكبر كثيرا، لكنها تركت الضوء حافتا، وكأنها أرادت أن ترفع عن نفسها ثقل دهشة يمطرها بها المكان إذ يراها، تجاوزت المدخل ساكنة إذ لم تحاول أن تحدث أحدا في طريقها، ردت بكلمة قصيرة متثاقلة لا تكاد تسمع تحية لمن مروا في طريقها.

تنفست مكانها الهادئ، وعلى مسافة منه هي، تحسه فيها أكثر، لكنه لا زال بعيدا، للأمكنة روح تعانقنا مرحبة حينا وتدفع بنا بعيدا عنها حينا آخر، نأت بنفسها عن دهشة المكان واحتمت بظل العتمة، وشموخ أخيلتها لكنها لا زالت تفتش عن صوت يناديها يسألها، وكم تطمع لو أنه يعتب بدفء لغيابها، نثرت حيرتها في تفاصيل الوقت الذي لم تكن تدركه تماما، إذ أحست بستائر نافذة الصالة الوحيدة تتمايل مرتدية نفس زيها الأزرق الباهت، عنى لها تحركها الكثير، تحركت ترحب بها، تمايلت شوقا، تأكدت أن النافذة مغلقة وأن الهواء لم يبعثر هدوء الستائر، لكنه الشوق.

لم تكن تحتاج أكثر من هذه الحركة من الأقمشة لترفع عنها ثقل حذائها الذي تكره صوته الصاخب. على صورة المرآة لا تكاد ملامحها تتضح، وضعت كفها فوق المرآة لتترك أصابعها بصمتها في المرآة، تدرك غيابها الطويل، إلا أنها تهتم بتحرير عنقها من وشاح أسود داكن تكسر بعض الألوان المتلعثمة سكونه.

انسلت من حدود غيابها وقد صارت تعرف أكثر أي ألوان يمكنها أن تكمل خطوط لوحتها، لا زالت ألوانها تراوح مكانها وتحمل الصخب ذاته، تتناثر بعض الألوان وتترك أثرا لم تكن واثقة أن من الممكن إخفاؤه عن الأرضية، داست بعض الساعات وهي ترتب المكان وترفع عنه بعض ما علق به من غبار في أزمنة الحنين.

امتد على جسور عينيها مكانا جديدا لا يعرفها، يحتفي بعودتها، يرتدي ذات حليه القديمة، لا يغيره شيء إلا أنها رفعت عنه ما علق به من غبار الغياب، اقتربت من آلة التسجيل وارتفعت صوت موسيقاهما، هو ذات القرص الموسيقي يحتفظ بمكانه في آلة التسجيل منذ تركت جدرانها وغادرت تحاور جدران أخرى.

بروح ذاك الصوت أحست روحا أخرى تضج في المكان على هدوئه، موسيقاهما تبدأ هادئة تحمل من الحرير روحه، وتعود لترتفع أكثر صخبا وشموخا، تسمعها اليوم وتصغي إلى مطلعها الهادئ وكم صار اليوم بلون الرصاص، باهتا أكثر حاملا روح الأنين قاسيا، وتسمع في صحب الموسيقى صراخا وحدة وكأن النغمات تصرخ فقدها للحظات، لهما معا، شوقها لوجهها يغير لونه في مرآة عينيه: " نحن فقط من نصبغ أشياء عادية بروح أخرى وعمر آخر." تذكر كلمته هذه، تكررها مرات بصوت يبدو أعلى في كل مرة، وتنظر في ألوانها، لوحتها غير المكتملة وتقول بصوت يعلو أكثر من المعتاد وكأنه يجيب صوتها الأول:" أشياؤنا التي صبغتها روحنا، أراها الآن وقد صار لها روح أخرى، وصوت آخر يسأل أكثر مما كان، صار لها عينان تبحث عنك.

نثرت نفسها بالعطر، طوق ياسمين يزينها، ورفعت عن وجهها كل المساحيق والزينة، وعلى صفحة مرآتها أرخت عن كتفها ثوبها، واختارت آخر يحمل اللون الأسود ذاته، وهي الآن ذاتها، تلبس الثوب الأسود الحريري ذاته، وللمرايا ذاكرة تستعيد صورتها أمامها كأن الوقت لم يمض، كأنها لم تغادر المكان بالأسود ذاته، ويشوبها الحزن.

تشتاق المرآة صورتهما، هي بقوامها الممشوق المعتدل، بقدمين حافيتين، وهو بكامل أناقته، يرتدي حذاء أسود لامعا، وبدلة سوداء وقميصا أبيضا يزينه بربطة عنق حمراء، ولا يهمل أن يقيد معصمه بساعة ذات إطار فضي غليظ، ويلون نفسه بروح العطر، ويحتمي بكامل كبريائه إذ يمد لها يده، معلنا شوق الموسيقى لهما تحت دفء صوتها، مؤمنا أن على الرجل التسلح بكل ما يستطيع من زينة ليوازي امرأة واحدة لا تلق بالا لكل أطياف الزينة، وتترفع عن كل ما قد يغير دفء روحها.

وحدها المرآة من سمع حديثه إليها ذاك اليوم، حين دعاها لتخرج وتخرجه من صومعة ريشتها وبعض الألوان، وتنفق بعض الوقت في عينيه، في يديه، وفي روح موسيقاه، تتأمله بارتباك مقتربة منه أكثر، كم هي سعيدة به اليوم أكثر للمرة الأولى يخرج من إطاره الخاص، يدخل حدود لوحتها، يسمح لها أن تقتبس شيئا منه في لوحتها، وأن تراه متحررا من كل التفاصيل والأقنعة.

بين كفيه غزلتها الموسيقى روحا أخرى، قريبا منه كانت، تعتب على خطوات الرقص التي تباعده عنها للحظات، يقترب منها كأنه يهمس في أذنها، على أنه لا يقول شيئا مكتفيا بخصلات شعرها الأسود القصير تدفئ وجنتيه، ولا يمل الدفء ولا يراوحه، يحب أن تراه يحترف الرقص، لكنه يحبها أكثر، وحدها المرآة طالعت وجهيهما يغتسلان بالنور، وكم يشتاق شعرها الأسود الإصغاء إلى همسه المراوغ.

وحيدة هي هذا المساء تجالسها المرآة، وتحاورها الموسيقى، ولا شيء يقلب نفسه بين كفيها إلا الصور، وعلى مسافة خوف تقف لوحتها خجولة إذ لم تكتمل، لم تهدأ الألوان فوقها، وعكر الرصاص اتساق أطرافها. سرقت من وقته وقتا متحررا من كل قيد، وخارج تفاصيله ووقته، ومواعيده عاش معها لحظتها الدافئة، لحظتهما التي انسلت منها على مهل ببسمة، وعيون براقة، وعادت لتحتمي بريشتها وبعض الألوان، ولوحة تنتظر أن تكتمل ليكون وجهه، ملامحه، وروحه فارسها.

بدا في اللوحة مختلفا، لم تكتمل اللوحة إلا أنه مختلف تماما، يشبه الصورة في المرآة، يشبه الصورة في ذاكرة اسطوانة الموسيقى، وحدها رأته يرخي سلاحا ذا صوت صاخب عن كتفه، ويطوي زيه العسكري بعيدا عن أقمشتها الحريرية، إلا أن ريشتها لم تنجح في لوحة هادئة، لم تكتمل لوحتها، فرصاصة سرقته منها، وصار له مكان آخر.