[x] اغلاق
قالها أخيراً
26/3/2015 9:46

قالها أخيراً

بقلم الكاتبة الفلسطينية: سعاد شواهنة/جنين

فكر ملياً قبل أن يقول ذلك، يعي تماما أن اللحظات تدفعنا دوما باتجاهات ندركها، وترسمنا في عيون أطفالنا روحا أخرى، نرتب الكثير من الكلمات الاعتيادية كل صباح لكنها كلمته التي أراد أن يتركها في روح ابنه.       

 كان صباحه مختلفا هذا النهار، هذه المرة لن يحمل صفحة الحظ في جريدته الصباحية كامل المسؤولية عما قد يحدث لن يقلبها مرارا باحثا عما ترويه له من حظ يبحث عنه، ومهام عليه أن ينجزها، وأخرى عليه الهرب منها.اعتاد ولوقت طويل أن يصغي لصوت طالعه في جريدة ما، أو إذاعة يقلب أثيرها في طريقه للعمل، أما اليوم فيعايش شعورا مختلفا لا يدركه تماما.  انتابه شعور غريب كأنها المرة الأخيرة التي يقف فيها على هذه الربوة، ربوة عالية ساكنة تجلس بهدوء بعيداً عن صخب المدينة وأبواق السيارات، وأصوات العابرين، تجلس الربوة بهدوء ثابت لا تطلق الكثير من الأحاديث تاركة لنسائم الربيع أن تلون خضرتها وتراقص ترابها وتلامس ورودها الربيعية. أرخى جسده فوق العشب ممددا كفيه مطلقا عينيه في ذاكرة نابضة بالحياة، هنا قلب طفولته، وقضى كثيرا من الوقت راكضا لا توقفه المسافات، على مسافة أميال من هذه الربوة رسم عمر طفولته في أرض كان يأتيها مع والده طفلا، قضي الكثير من الوقت فيها، لا يذكر عدد الكرات التي أضاعها فيها، إذ كان يركلها بعنف كبير فتبتعد كثيرا حتى لا يستطيع رؤيتها أو اللحاق بها. على مسافة من هذه الربوة سار حاملا بعض عبوات الماء والطعام ليرسله لوالده بعد يوم عمل طويل يزرع فيه بعض الأشجار، ويهتم بأشجاره القديمة، يقلم فروعها، ويسقيها. يرى الأرض الآن من على هذه الربوة وقد صارت بعيدة عنه، على مسافة كبيرة منه هي، هو الذي يذكر تماما كم كان يحلم أن يبني له بيتا هناك في هذه الأرض، مهتما بأن يزرع الكثير من الأشجار، ودالية في فناء منزله.

 

 

 أمضى بعض السنوات في الدراسة بعد تخرجه استغرق يعمل مع جاره في أحد متاجره، يقلب وجوه الزبائن كل صباح وقد اعتاد الكثير منهم، الاعتياد روح تسكننا دوما، وكثيرا ما تخلق فينا خوفا من التغيير، هكذا أمضى عامين وهو يبيع الزبائن البضاعة التي يطلبونها، ويشير في كل مرة أن هذا منتوج وطني على مستوى من الجودة، ويترك دائما لزبائنه ذلك الوقت في تقليب بضاعة المتجر والعودة ببعض الأشياء التي يريدونها.

  في يوم زواجه كانت المرة الأولى التي ينته فيها إلى أنه يصفف شعره بالطريقة ذاتها منذ سنوات طويلة، إذ التحق بالجامعة مهتما أن يكون له شعر أسود داكنا وكثيفا، ولحية قصيرة تغطي ذقنه دون أن ترسم في ملامحه شيئا من الوقار. غير بعض تفاصيله مستعدا ليوم زفاف أراده مختلفا.

 خلال عمله في إحدى الصحف اهتم بتحرير زاوية تهتم بالأطفال، بكل ما يكتبوه، وما يشعروا به من حنين وحياة وطاقة، وكل ما يفكرون به، فضوله الدافئ وشغفه بروحه طفلا شقيا يذرع الأرض ويتركها تعج صخبا دفعه للاهتمام أكثر بما يكتبه الأطفال، لا يمكنه تجاوز تلك الأزمة   الخانقة التي يحسها و يوقع  فيها كلماتهم في الخامس من أبريل " يوم الطفل الفلسطيني" ، أي عنوان يختار لهذه الكلمات التي تصله عبر البريد؟، يمر بالأطفال في الشوارع يبيعون بعض الأشياء على ناصية الشارع،  تطرق  أيديهم بابه سائقاً:" تشتري هذا يا سيدي؟"   وبين الحقول لهم صورة أخرى تفتش بين الأشواك عن مستقبل لها، ويقلب في المساء المحطات التلفزيونية ويرى صورا لأطفال يقتل القهر أعمارهم، ويوقف الاحتلال صور أحلامهم، يكسر مراياهم القديمة التي رسموا فيها غدا حلموا بأن يكون أكثر دفء.

   فكر مليا قبل أن يقول ذلك، عاد بعد أن قضى وقتا طويلا واقفا فوق تلك الربوة المطلة على أرضه التي رسم فيها كثيرا من أيام طفولته، أمضى كثيرا من الوقت قبل أن يصطحب ابنه معه عائدا:" انظر إلى تلك الأرض  البعيدة  هناك، حيث تقام مستعمرة لا زالت تمتد حتى اليوم ،لقد عملت فيها يوماً زرعتها وقطفت من ثمارها،" أطلق ابنه نظرة غريبة وعاد إلى لعبته كأنه لا يفهم ما قيل له، كأنه لا زال غير قادر على استيعاب هذه التناقضات: "لعبت هنا  عندما كنت طفلاً بعمرك  وأضعت الكثير من الكرات، وصنعت الكثير من القلاع بالأحجار،" كأنه لا يفهم ما قيل نظر بعبثية وعاد إلى لعبته. أخرج والده صورة من جيبه:" انظر هذا أنا وكرتي يوم كانت الأرض خضراء قبل تجريفها لملاصقتها إحدى المستعمرات."

أطلق الطفل نظرة ثاقبة كأنه أدرك أن هناك الكثير عليه أن يفهمه بينما ظل والده يمسك الصورة بحرص.