[x] اغلاق
ذاكرة وصور
28/5/2015 8:06

ذاكرة وصور

الكاتبة الفلسطينية: سعاد أحمد محمود شواهنة/جنين

رسم الوقت لصورتها ذاكرة أخرى، هكذا تقف في ظلال مرآتها، تسمع روح اللحظات تصخب في جسدها، ترسمها طيفا آخر، وتحب أن تلمح صدى روحه في الأمكنة، ورجع ارتداد لحظات قلبا دقائقها معا.

في حدود شفتيها لا زالت قادرة على رسم ابتسامة دافئة، تحس صوته يعتب على روحها إذ يلمح لونا باردا لبسمة جافة، وتزين الوقت انتظارا لوعود تجمعهما، تجعلهما أقرب.

أعدت نفسها هذا الصباح بما يليق بالأمكنة، به، بالذاكرة. كانت تقلب ملابسها في الخزانة، وتحس يده ترفع كفها عن تنورة قصيرة، وفستان بلون صيفي بارد، تتذكر عيونه تحاول إخفاء بريق ما وهو يمضغ بعض الكلمات:" هي جميلة، لكن شوارع المخيم ضيقة."

تطوي يدها عن ألوان الصيف، وأقمشته ذات الألوان الباردة، وتختار بنطالا أسود وبلوزة رياضية بأكمام تكاد تكون طويلة، رسمت على صدرها بعض الكلمات والشعارات إحياء لذكرى النكبة.

تركت أحذيتها ذات الكعب العالي وأرخت قدميها في حذاء هادئ الصوت، يمنحها ارتفاعا أقل، لكنه يناسب صوت الجدران المتلاصقة، والشبابيك المنخفضة التي توشوش بعضها في أرجاء المخيم، وتحكي الكثير عن أطفال لم تكتمل أحلامهم، ولم يكبر بهم الوقت أكثر، وإذ تمر بالمكان لا تنس شابا قلبت الوقت والأحلام والصور واللحظات بين ذراعيه، رسما معا صورة لبلاد أخرى.

تمر بالشوارع الصاخبة، يفترش الأطفال الشوارع صخبا، أصواتا، وأحلاما، ويلاحقون بلهفة كرة بالية تجمل وقتهم، وأصوات السيارات تعلو مذهولة بطفل يقتل الوقت في الطرقات، فلا أرصفة يحتمي بها أعمار أطفال لا زالوا يحلمون.

عرفته ذات صدفة شائكة، كان يشق الوقت صخبا، سمعته صارخا، منفعلا، تتراكم أمامه الملفات، وتتكاثر أمامه الوجوه، التي تأتي سائلة عن أمر لا زالت تنتظره، أما هي فكانت زيارتها الأولى للمخيم، إذ تعد بحثها حول دور لجنة خدمات المخيم في التنمية الاجتماعية، لديها كثير من الأسئلة، وصارت على يقين أنها اليوم لن تحصل على إجابات وافية وسط ما يتكبده من عناء ومشقة.  

لم تكن تعلم في ذلك اليوم أنها ستمتلك منزلا في المخيم، كانت صدفة غريبة دفعت بها إلى ذلك، وأيام من الاجتياح، أمضى فريد أيامه متنقلا بين أسطح المنازل الضيقة والمتلاصقة، واختار له مكانا بعيدا إذ تشتد الآلات العسكرية صخبا، منزويا في سفح جبل يطل على المدينة، كان بعيدا يتحرك بحذر، محدود الإمكانيات لكنه مستمتع بصخب في التطلع شكل المدينة الهادئ الخجول، رغم ما تعانيه من حصار.

وإذ يكون بعيدا يشتاق إليها، يشتاق صوتها، لكن مراسم الحذر تمنعه من الاتصال بها، ويخاف أن يزجها معه في خندق المتابعة والملاحقة، فيرجع عن عزمه التسلل إلى شرفتها مساء، كما يتسلل إلى سطح منزله ويسرق من عمر الاجتياح المجنون وقتا تطوقه فيه بحبها.

اشتاقها بصمت، وانتظر أوقاتا رفع فيها الحصار عن روح المدينة ليتسلل إلى فناء منزله، يلقي نفسه في جسد أمه، لا يقول الكثير، لا يسمع كثيرا من التراتيل والكلمات التي تقولها، لكنه يحس نبضاتها، صوتها، دفئها قبل أن يعود ليؤدي بعض عمله في اللجنة، إلى أن تجد سلمى وقتا سريعا، خاطفا تراه فيه، تراه وحسب، فلا وقت للمدينة تهديه لقلوب تعزف عزفا منفردا ساكنا في هذا الصخب والموت والحصار.

طوى الاجتياح نفسه ورحل، سرق أمه ورحل، استرق الوقت محاولا إجابة عائلة تطلب مساعدة هنا، وأخرى تستغيثه هناك، لكنه الوقت كان وحده من يجلس بصحبة أمه إذ تعبت وضاقت أنفاسها كثيرا، افتقدت الاكسجين الاصطناعي الذي احتاجته، هو كان وحيدا، بعيدا، وهي كانت وحيدة، بعيدة، تقلب الوقت بملل، ويقلبها الموت بكبرياء وهدوء، بين جدرانها أروقتها الباردة.

مرت الأيام ضيقة خانقة، إذ ينتظر انتهاء اقامة جبرية في منزله، تخنقه الجدران، تعيد إليه في كل وقت صدى صوت أمه، وصورتها تمشي صباحا في فناء منزلها الصغير، وتسقي زرعها، وتغني أهازيجها، وتشكو له طيرا أتلف نضرة نعنعها، وبستانيا أهمل أشجارها في لفتا، مرت لحظاته صعبة لكنها صورتها صوتها الدافئ، وزياراتها القصيرة الكثيرة التي حملتها إليه، جاءت سلمى دون أن تلقي بالا لمسات الجارات، وأحاديث المارة، وارتياب صوت أمها.

أحبت المنزل، غيرت بعض ملامحه تلك البسيطة التي لا تجرح الذاكرة، تركت غرفة أمه كما هي، وفناءها وأحواض الزرع، حاولت أن تترك روحها في الجدران الباقية:" هكذا تتذكرني كل حين." مضغت هذه الكلمات بصوت لم يبد مسموعا، وهي تنزع عن جدرانه صورا عشوائية، لثوار عالميين.

لم تكن الأيام، لم تكن اللحظات، كان هو، روح فتشت عنها في زياراتها الأخيرة له ولم تجدها، كان يخفي عنها أمرا ما تحس لمسته مختلفة، باردة، مرتبكة، ويبدو صوته متزنا أكثر مما اعتادت، تلك الرزانة والانضباط التي يتسلح بها عسكري يتحصن خلف سر لا يرغب في افشائه.

اللحظات الأخيرة مختلفة دائما، كأنها تريد لنا أن نحيا بها عمرا بعد تلك اللحظة، سمعته، تنفست روحه بين أضلعها، باركت روحه صوتها، صخبها، تألقها، زينتها، ارتباكها، شغبها وشغفها.

كانت ليتهما الأخيرة، ترك لها مفاتيح منزله في المخيم، أما هو فقد اختار مكانا آخر يحاول فيه أن يكون روحا جديدة، تقلب جدران منزله اليوم، والمدينة تعيش الذكرى السابعة والستين للنكبة، صار عمر لجوئه 67 عاما، وهو يعيش تفاصيل لجوء جديدة يفتش في عرض البحر هذه المرة عن مدينة بعيدة لا تشبه أحلامه، تسلل والده إثر هزائم عديدة ونكسة مؤلمة إلى قريته المهجرة، طاف بها كثيرا، مر يلقي التحية على الذاكرة، أما فريد فلا زال يبحث عن ركن يتسلل منه إلى حلم يشبهه، ومكان يحيا فيه طموحا مختلفا، وسلمى لا زالت تعيش لجوء قلبها في مدينتها الصغيرة.