[x] اغلاق
انتظار
23/7/2015 17:13

انتظار

بقلم: الكاتبة الفلسطينية سعاد شواهنة جنين

لا ندري تماما كيف تعود الذكرى بصورة مختلفة على مسافة من الوقت، كان الوقت مختلفا لكل واحد منا، كنا ننتظر الضيف نفسه، الروح ذاتها، لكنه انعكاسها يأخذ صورا عديدة في أرواحنا.

هذا اليوم سمح لي بالسهر إلى ساعة متأخرة من الوقت، وبشكل أدق أعتقد أنهم انشغلوا عن طفل مثلي بالكاد يدرك الأشياء. كنت أسترق النظر من خلف زجاج نافذتي الصغيرة، أراها تقف أمام مرآتها، تتزين، تصفف جديلتين وترخيهما فوق ثوبها الأبيض، الذي بدأت ألوانه تبهت، له أكمام طويلة، وتنورة هادئة. تبالغ في تزيين وجهها، وتضع أحمر شفاه بلون كرزي، وتغني، تغني أغان تبدو واضحة في مطلعها، ثم تبدأ بالفتور إذ يمازج الغناء صوت بكائها، وحرقتها.

يعرفها تماما، يتذكرها في أحاديث جدته، كانت تقول الكثير من الأشياء، تشارك جاراتها، بناتها، وأحفادها الأسرار إذ يكون موجودا في المكان، وتقول حين يذكرها أي منهن بوجوده:" لا بأس، فارس الله يعينه، هو داري شو بصير بالدنيا." ينظر إليها:" هذه سكون، العروس التي انتظرت يوم زفافها عريسا لم يحضر، اختار أن يحول جسده إلى شظايا علها تجتمع فتصنع وطنا، هكذا كانت تقول جدتي قبل أن تطلق تنهيدة قاسية."

على اتساع عينيه وشدة البياض فيهما لا يستطيع فارس تثبيتها في اتجاه واحد لوقت طويل، يحدق بها لوقت قصير بحجم كلام جدته، ويحرف نظره باتجاه خياط، له متجر صغير في زاوية الحي، لم يكن من سكانه، جاءه تاجرا، ومنحه الوقت وترادف السنوات تلك المساحة ليكون قريبا من الجدران، والأحاديث، والأشخاص، وهو أيضا يعيش اليوم تفاصيل انتظار، لم يغلق متجره باكرا، لن يستطيع الخروج والسير مع السائرين؛ لكنه يعيش انتظاره الخاص: " كان شقيا، صاخبا، استعار الكثير من أقمشتي خلسة، وارتداها، كان قماشي الذي أعرفه، لكنه حين تنكر بزي شبح وبصوت مخيف أرعبني تماما، حتى أنني أظن أن شعري الأبيض هذا بدأ يمازج الأسود في ذلك اليوم." ينظر إلى العم فريد من خلف نافذته، يجمع قصاصات الأقمشة ويلقيها في الحاوية، فريد لا ينفك يردد العبارة ذاتها في كل مرة يلقي بها أقمشته:" كنت أحرص على جمع القصاصات مختلفة الألوان، وكان حريصا على أخذها مني، وبعد يومين لا أدري كيف يصنع منها كرة تتدحرج وتصدر صوتا عاليا، يلعب بها وشباب الحي."

في الزاوية البعيدة يجلس ساعي البريد، أنهى طوافه منذ ساعات، فلم يكن لديه الكثير من الطرود والرسائل ليوزعها، ساعي البريد يعيش انتظاره الخاص اليوم، بعيدا منزويا، سينتظر الضيف ويراه على مسافة من الجغرافيا. لا زال يذكره، فقد حمل له الكثير من الرسائل، وتحمل منه التذمر والعبثية في كل مرة أوصل له فيها رسالة من عمه في اليونان:" في المرة القادمة، وحين تصلني رسالة مشابهة أضعها في الطريق إلي رجاء."

كنت أضحك في كل مرة يقول لي فيها هذا، وأقول له: " ربما تجد فرصة أفضل وترسم لنفسك خيارات أخرى هناك." تغير الوقت، تسارعت الوسائل التي تصله فيها الرسائل، يصعب معرفة كيف تعامل مع صخبها وتطورها، لكنه اليوم في مكان آخر، والجميع يعايش لحظات انتظار لا تنقضي.

هذا المساء، في عتمة ليل هادئ وصل إلى المكان، في عيون من تذكره، من عاش انتظاره بدا كما لو أنه غاب دهرا، كان روحا نضرة، وابتسامة مشاغبة، يمشي اليوم محمولا بين عدد قليل من الأكف، يسير خلف نعشه عدد قليل من رجال لا يعرفهم، وشيخ سيقرأ على روحه السلام مودعا.

خلف الجدران، خلف الشبابيك، في الشوارع، وعلى ناصية المحلات التجارية، تذكره، وانتظر مروره الكثيرون ممن تقاسموا معه اللحظات، وفي سيره الآن يتطلع في الوجوه، يبحث عن وجوه يألفها، تغيرت الأماكن، تغير الوقت، تغيرت الوجوه، كل الأسماء تغيرت.

في سيره يعي تماما أنه أيضا تغير، هو الشاب الحالم الذي كان، وشقيا رفض السفر بحثا عن حياة أفضل، ومشاغبا اشتعل في قلبه الوطن، فتناسل جسده بين غرباء لا يحب حضورهم، وارتقت روحه في سماء أخرى، وكان رقما ليس أكثر في مقبرة حاشدة بالأجساد الحالمة، وصار اليوم ذاكرة وحكاية وطيف صورة مرت في المكان تبحث عمن تحب، وتهديهم السلام.

مروا في المكان هادئين، وحده صوته كان صاخبا، ووحدهم من خلف جدرانهم ونوافذهم من سمعه.