[x] اغلاق
شظايا
5/1/2016 8:02

شظايا

بقلم الكاتبة الفلسطينية: سعاد شواهنة/جنين

يرسم الوقت في يومها روحه المشاغبة، تعد نفسها بتأن، تختار قميصا أبيض رسميا يشد أنسجته في حدود خصرها، وبنطالا أسود تزينه بحزام فيه الكثير من اللمعان، أمام مرآتها تأملت وجها ساهرا، وروحا قلبت في اللحظات ذاكرة لا تغادرها، ومع ابتسامة أخيرة رسمتها لمرآتها وضعت لمستها الأخيرة على جفونها، ورفعت رموشها وجعلتها أكثر استطالة.

حملت حقيبتها الصغيرة، وجكيتا أسود على ذراعها وخرجت، الشوارع صاخبة تضج بالعابرين، تختلف طرقهم، التاجر في الزاوية المقابلة يشرع أبوابه، ويعلق في بابه بعض الألعاب، بينما ينشغل جاره بترتيب الفساتين وعرضها على الماليكاند على الرصيف المقابل، تمر سريعا، تستقل سيارة أجرة لتصل عملها.

تغير صوت مدينتها، صاخبا صار في صباحاته الساكنة، لا تكاد ترى وجوه المارين، تراهم كل يوم، يتقاسمون معها مساحة ضيقة في المصعد، أو رصيف يحتمون به من هدير السيارات العجلة في بداية النهار، لن يمضي الكثير من الوقت حتى ترى عددا من عملاء البنك يصطفون على كراسي الانتظار، حتى يحين دورهم فتؤدي لبعضهم خدمته، وتهمل بين واحد وآخر صوت رنين هاتفها، إذ لا كثير من الوقت لديها لتقلب حكايات حيها، وأحاديث الجارات مع صديقتها.

تنظر في ساعتها، في ظهر هذا اليوم ستكون أمها أيضا تصطف بين نساء ورجال كثيرين، ينتظرون دورهم في بضع دقائق يقضونها مع أسير جاؤوا لزيارته، ستقف أمها على مسافة من ابنها، وستسمعه من خلال هاتف، لن ينقل صوته تماما، وسترى وجهه بصعوبة عبر زجاج يبدو شفافا على أنه لا يكشف الكثير من الملامح والتفاصيل، نجمة لا زالت تذكر وجه أخيها ذاك المساء، هادئا صافيا كان، تشارك مع خطيبها القهوة وبعض السكاكر والكثير من الأحاديث، كان وجهه صافيا، وصوته هادئا على غير ما اعتادت منه.

نادى اسمها بهدوء، وطلب إليها مزيدا من السكر يحلي به الشاي ويقوى على قسوة الحياة، كانت ليلة هادئة ساكنة، استيقظت إثرها على واقع قاس، كانت بين زملائها في العمل تعد الوقت وتقلب الأوراق، إذ بدأت الشاشات الإخبارية وأصوات المحيطين تتناقل خبرا صاخبا، لا تدرك الأمر تماما، سمعت أحاديث عن انفجار قوي، إطلاق رصاص، صخب، ضحايا، جرحى، وشهيد.

جاء صوت أمها قلقا، مرتبكا، مغموسا بالبكاء، لم تقل الكثير؛ لكن ارتباك صوتها كان كفيلا بدفع نجمة للذهاب إلى أمها على عجل، كانت تجلس في فناء منزلها، لا زال صوتها قلقا إذ تقول: " حدثني أحدهم، لا أعرفه، قال كلمات مترتبة وشهقت بالبكاء وهي تقول:" قال إن خطيبك زف إلى الجنة هذا الصباح، وأن أخوك بطل لا يعرف التراجع والانسحاب من الميدان."

نجمة تطالع الوقت هذا النهار، الشارع يعج بالحياة، المدينة بكامل زينها، لا يبدو أن للمكان ذاكرة، كأن المدن هنا تصاب بالزهايمر، وتعيش حالة من تشظي والانفصام، في ساكنيها أشخاص يبدؤون يومهم بكد وتعب، وأشخاص يبحثون في روح يومهم عن متعة يحيونها، وأخرى يجنونها، وآخرين لا زالت ذاكرتهم قلقة يقظة، أم نجمة تزور ابنها في السجن، ولا زالت تشكر الموت مرارا، إذ انحنى منعطفا عن وجه ابنها، خانته أدواته فلم ينفجر متحولا إلى شظايا بين ركام الأماكن، تنبه إلى تلف معداته، بينما صديقه يتناثر بين الصخب، وبين موتين وقف، فأطلق الكثير من الرصاص، أهوج لا يرى أمامه، أعمى لا يصيب هدفا.

مر الكثير من الوقت، ولا زالت أمه تقطع تلك المسافة القلقة المحملة بالشوق، لتحظى بزيارة قصيرة، وتسمع بعض الكلمات من ابنها، وإن صارت تسقط الكثير من كلماته، وتخشى أن تطلب إليه إعادتها، فيباغتهما الوقت قبل أن يقول كل ما يحب قوله لها.

نجمة تطالع الوقت، وتبحث في سريرها عن بعض الراحة بعد يوم طويل، وترقب الباب بشغف، إذ تنتظر طرقات أمها مساء، إذ ستصل في وقت متأخر، ورغم تعبها ومشقتها لن تغفو قبل أن تشارك نجمة كل الأحاديث، الطريق، والقلق، والأمهات، وعيون الأسرى، ستعود أمها محملة بالذاكرة، وستعيد على نجمة سرد قلقها، وذاكرتها وألمها، وستهج سبها طوال الليل، وصباحا ستصحو نجمة، وتطالع شارعا عاديا، وأناسا محمومين بالكثير من الأعباء اليومية، ومدينة تحيا حالة انشطار.