[x] اغلاق
حَيفا وكوباني وما بينهما..
20/7/2016 9:46

حَيفا وكوباني وما بينهما..

بقلم : سعاد عوض سواعد
منذُ نُعومةِ أظفاري يُراوِدُني حُلمٌ صِبيانيٌ أرَْعَن كَهُلَ بينَ طيَّاتِ ذاكرتي مُنْتَظِراً مُتأمِلا أن تَأتيَ تلكَ المركبة العجيبه وتأخذُني حيثُ أَشاء وقتَ أَشاء .. وإلى يومي هذا ما زال الطفلُ القاطنُ أَبداً بداخلي يرصد التكنولوجيا الحديثه علَّها تأتيهِ بتِلك المركبه ..
عاوَدَني الحلم ذاته بإلحاحٍ في ذاك النهار وَلستُ أدري لماذا .. أو لَربما أدري.. وفي هذه المَرَّه، وَبحلمي، لنْ أنطلقَ وَحدي.. سَأَطلُبَ مِنْ بعضِهنَّ مُرافَقَتي في زيارتي المرتقبه .. أُمهات لأطفالٍ إنتظروا بشوقٍ تلك الرحله، وَبَعْدَ عََدٍ تنازلي النهار تلِوَ الآخر أقٌبَلَ اليومُ المرتقب والربيعُ يودعُ آواخرَ أَيامِه..
شاءَ القدرُ أَن يكونَ الطقسُ متقلباً بعضَ الشيء في حين اختارت شمسُهُ أن تجعلنا في حيرةٍ من أمرِنا فكانتْ تظهرُ تارةً وتختفي أُخرى.. وجادت السماءُ علينا بزخاتٍ منَ المطرِ ما بين الحينِ والآخر ..
وبدأتْ علاماتُ الإِمتعاضِ تظهرُ على وجوهِ بعضهن...
قضى الاولادُ وقتاً لا بأسَ بهِ منَ اللهوِ والمتعةِ متأرجحينَ بين لعبةٍ وأخرى ومن ثمَ واصلوا طريقهم الى حديقةِ الحيوانِ المجاوره.. رأيتُ اللهفة في أعينِهم الجميله لم يأبهوا لتلكَ القطرات التي بلَّلتهم بين الحين والاخر، لا بل إنَّ تساقطَ الأمطارِ في يوم ٍ مشمسٍ قد أضافَ للرحلةِ نكهةً  مُنعِشةً منَ التحدي والمغامره عندَ  غالبيتِهم ...
قلةٌ قليلة من الأمهاتِ أبدَت استياءها من ذلك ،أستنكرت وثارَت على مرأى ومسمعٍ من الأطفال لتفسدَ فرحةً يعيشوها مرةً كلَّ بضعِ سنين..فيا للهولِ ويا للمصيبه... السماءُ تمطرُ فوقَ رؤوسِ أبنائِنا المساكين وهم في رحلةِ استجمام!!
عجزت عن التعليق وأبحرت بعيداً إلى عالمِ الامنيات المتواريه والمدفونه في أجداثِ ماضينا وحاضرِنا  وإن لم نتحدث عنها جلياً  ..وعاودني الحلم ذاته من جديد ودَدتُ أن أُحَلِّق فوقَ  بقاعِ الارضِ وأرى عن كثبٍ ما يحدث هنا وهناك .. وفي هذه المره سأطيرُ بهن كالسندبادِ على بساطِ الريحِ لكيْ تشهدَ أعينهن ما يحصل هناك في كوباني والرقة وريفِ دمشق ومخيم اليرموك وبقاع أخرى منكوبه، لا بغضبٍ الهي، انما  بأيادٍ بشريه أتت عليها عن بكرة ابيها
بعدَ أن كانت ذاتَ يَومٍ  فردوساً على وجه الارض باتَت حُطاماً واطلالا يتيمةً بائسه وكأنها لم تكن يوماً عامرةً بضحكاتِ اطفالهِم وأمجاد آبائهم وخُطى شبابهم العريضه ..فاستشهدَت معهم العروبة والرجوله والإحاسيس بأدنى حدود الإنسانيه..
ففي حين يسقطُ المطرُ وابلا على رؤوسِ أطفالنا في رحلةٍ ترفيهيه، إلى الشرق منا يسقط الرصاصُ وابلا على رؤوس أطفالهم  مدججاً ببراميل متفجره .. نثور ونغضب.. فلذات أَكبادنا قد يصابون بالزكام ،يمرضون أو يتألمون، فنهرع لطرقِ باب أي طبيب وما اكثرهم في أَيامنا.. أمرٌ وارد وواجب .. ولكن  أطفالهم  ممن شاءت لهم اقدارهم العيش ينتظرون هنا وهناك على الحدود وفي بلادٍ غريبه يفترشون الارض ويلتحفون السماء  في ليال زمهريرية عصيبه وأيام قيظ عسيره، ومن باقٍ منهم على قيد الحياه فهو باقٍ على قيد الذل والبؤس والحرمان ، ذاك يقفل حدوده أَمامهم وآخر يمد لهم يد العون ليغرقهم باليد الاخرى فيبرحون أوطانهم بأجسادِهم فحَسب تاركين وراءهم أَرواحهم ونفوسهم وكل  شيء بعد أَن غدا لا شيء، ولم يبقَ هناك أَثر حتى للذكرى ..  فعن اي اذىً يتحدثون ...
وأما من كُتِبَ له البقاءَ على أرضه وله سقف يأويه ولقمة يسد بها رمق جوعه هناك، فهو في رفاهيه بالغه ...
وتلكَ التي حزِنت وبكت لفقدان بعضِ البياناتِ من هاتفِها ربما لا تُدْرِكُ  أن أوطاناً وشعوباً كاملةً تزول وحضارات بأكملها  تُنْسف بلا هواده  فَتُمْحَى آلاف السنين بلحظات ليغيبَ التاريخُ الى غيرِ رجعه، لا  بِصُوَرِهِ وبعض بياناتِهِ بل بأصولِهِ وبكل معالمِه بعد أن دمرت الحروب البشرَ والشجرَ  والحجر ..ونَحن يُزعِجُنا المطر !!!
فكم انت غريب أيها القدر ..فئةٌ تَقْتُل وَأُخرى بغير حقٍّ تُقْتَل ،وهناك من يرى ولا يحرك ساكنا مسَيَراً أو مُخَيَّراً ..وآخرون قابعونَ في قوقعةِ "أَنا"  لا يرون شيئاً عبر محيطِ بيوتهم.. وهناك مَن اختار أن يحلم ويكتبِ في انتظارِ رحلةٍ وهميه ليرى ويُري وقائعَ مرة تعتصر لها القلوب  من على متن تلك المركبه لعلّ بعضهم يدرك حينها بأن ما هو عليه وإن كان شحيحاً هو حلمٌ كبير لغيره..