[x] اغلاق
صوت العندليب لن يغيب
29/3/2017 10:51

لذكرى مرور أربعين عامًا على رحيل عبد الحليم حافظ

صوت العندليب لن يغيب

بقلم: مَارون سَامي عَزّام

معظم أصوات المطربين القدامى، يبقى صداها عالقًا في ذاكرتنا، لأصالتها الغنيّة بالتراث الموسيقي، غالبية مطربي اليوم، يغنّون أغانيهم في حفلاتهم "الطربيّة السّاهرة"، بعد أن انتشلوها من بئر "الزّمن الجميل"، لكن هناك مطرب عريق، وهو العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، الذي اختلطت حياته الفنيّة بالشّخصيّة بشكل لافت جدًّا، وباتت حديث البرامج الفنيّة الحواريّة، على مدى عقودٍ من الزّمن.

مع حلول ذكرى مرور أربعين عامًا على رحيل العندليب الأسمر، أصبحت سيرة حياته مفترقًا إعلاميًّا، مُكتظًّا بالأحداث الفنيّة التّاريخيّة، تَعبُره جميع وسائل الإعلام العربيّة على أنواعها، بعرض أفلامه الرّومانسية بامتياز، أو أغانيه المليئة بالشّجن، كما هو مُتّبع سنويًّا، أو بإعادة فتح ملفّات ماضيه المثيرة للجدل مع حلول ذكراه السّنويّة.

عبد الحليم لم يكن ممثّلاً بارعًا، لكنّه كان مؤدّيًا رائعًا في أدواره التمثيليّة في السّينما، وذلك لأن جميع الأدوار التي قام بها، كانت تُكتَب له خصّيصًا، تتناول بشكل أو بآخَر حالته الصحيّة... تحكي عن ذلك الشّاب الفقير، المعذّب في الحب، نتيجة ظروفه الاقتصاديّة، كَم كان صادقًا للغاية في طريقة غنائه العاطفية التي تميّز بها، إذ كان يندمج معها بكل أحاسيسه ووجدانه.

إذا لاحظنا أغاني العندليب في تلك الفترة، فإنّنا نجدها قد قلبت موازين أغاني تلك الفترة من تاريخ الغناء العربي، فكلمات أغانيه لم تعُد تحاكي فقط الحالة العشقية بشكلٍ عام، بل أصبحت تعكس المشاعر الحقيقيّة المكبوتة لجيل الشباب، أجّجت كلمات أغنياته، ثورة عاطفيّة في عقل الأمّة العربيّة، لم تُخمَد إلى يومنا هذا، قمَعَت الأغنية التقليدية السّائدة في القرن العشرين من جذورها.

أحدَثَ عبد الحليم حافظ تطورًا كبيرًا في تخت الموسيقى الشّرقيّة، فكان أوّل من أدخَلَ الآلات الموسيقيّة الغربيّة على فرقته الموسيقيّة، مثل الجيتار الكهربائي، التي داعبتها أنامل الفنّان الكبير الرّاحل عُمر خورشيد (وهو شقيق النجمة الاستعراضيّة "شريهان")، وأدخَلَ حليم آلة الأورغ الكهربائية، التي عَزَفَ عليها العازف الشّهير مجدي الحسيني.

جعلنا العندليب نشعر أنه حقًّا يعيش حالة حب فوق العادة، إلى أن استحوذت أغانيه الجارفة للعواطف، على عقول الشبّان والفتيات تحديدًا في فترة والخمسينيّات والستّينيّات، فكان حلم أي ممثّلة آنذاك أن تقف أمامه، إلى أن وقَعَ اختياره على الممثّلة الصاعدة حينها ميرفت أمين، لتمثّل أمامه في آخر أفلامه "أبي فوق الشّجرة"، الذي أُنتِجَ عام 1969، أخرجه المخرج الشّاب الواعد حسين كمال، (مخرج مسرحية عادل إمام "الواد سيّد الشغّال") الذي تعرّف إليه عبد الحليم عن طريق شاب مُعجب به، اسمه سمير صبري (في ذلك الوقت لم يكن ممثّلاً)، وذلك أثناء تصوير فيلم "حكاية حب"، عام 1959، قام سمير بذلك من أجل أن يحظى بلفتة صغيرة من حليم، الذي كان يسكن في الطّابق العلوي لشقة ذويه.   

أثناء تصوير فيلم "أبي فوق الشجرة"، وخلال تصوير أغنية "قاضي البيلاج"، كان هناك مشهدًا اعتقد صنّاع الفيلم، أنه يُشكّل خطرًا على صحّته، وهو عندما سكبوا فوق رأس عبد الحليم عددًا من أسطال المياه، فخافت عليه ميرفت أمين من تصويره، إلاّ أن "حليم" كما كان يُحب أن يُلقّب، أصرّ على رأيه، وبالفعل صُوِّر المشهد بنجاح وفقًا للسيناريو، دون حدوث أعراض صحيّة لعبد الحليم.

في هذا الفيلم هناك مشهد قصير، لشابٍّ طائش يرتاد الملاهي الليلية، في البداية عُرِض هذا الدّور على الممثّل حسَن يوسف، الذي اعتذر عن قبوله، بعد أن أصبح نجمًا في ذلك الوقت، وهو الذي مثّل مع عبد الحليم دور شقيقه في فيلم "الخطايا"، فتذكّر المخرج حسين كمال، ذلك الشّاب سمير صبري، وعَرَضَ عليه الدَّور، فقَبِلَه بكل سرور، وحفِظَه بسرعة، ومن هنا بدأ طريقه نحو النّجوميّة.

مع مرور السّنين أصبح سمير صبري نجمًا سينمائيًّا كبيرًا، وإعلاميًّا ومُحاورًا قديرًا، ففي أحد برامجه التلفزيونيّة الحواريّة في سنوات السّبعين... طَلَبَ من عبد الحليم أن يظهر ضيفًا في برنامجه، وافق على الفور، لكنّه اشترط أن تُشاركه النجمة نيللي في البرنامج، هاتفها سمير ووافقت، خلال عرض الحلقة طلب حليم أن يأتوه بفنجان قهوة، مع العِلم أنه ممنوع من شُربها، فأمسَكَ الفنجان، ووَضَعه مقلوبًا على وجهه... ثم نظَر حليم إلى النّجمة نيللي قائلاً: "جلَسَت والخوف بعينيها، تتأمّل فنجاني المقلوب..."، عندها قال: "هذا مَطلع من أغنيتي الجديدة "قارئة الفنجان" للشّاعر نزار قبّاني، وألحان الموسيقار محمّد الموجي"، هذا دليل على أنّ المرأة هي إيقاع مشاعره، الذي يضبط عليه عقارب توقيته الرومانسي.

رغم مرور أربعين عامًا على رحيله، إلاّ أنه سيبقى ظاهرة غنائيّة نادرة في الفن العربي عامّةً، فملامحه البريئة، هي علامة مميّزة في تعامله اللطيف مع زملائه الفنّانين، فهو لم يحقد على أحد، وخلافه الفنّي مع الموسيقار فريد الأطرش، لم يطُل كثيرًا، بل كان بسيطًا، مجرّد سوء تفاهم، وعُقِدَ الصُّلح مع فريد الأطرش من خلال لقاء تلفزيوني مشترك بينهما، اتّسم بالودّ والمحبّة، لأن عبد الحليم كان طيّب القلب ومتواضعًا، رغم شهرته وجماهيريّته منقطعة النّظير، فذكرى رحيله، ليست عاديّة، بل هي موسم ربيعي، تُزهّر فيه أزهار الذّكريات مُجدّدًا، سنويًّا في بستان الذّاكرة.