[x] اغلاق
لذكرى رحيل الخالة فيوليت دُر – جرّوس وغابت شمس العطاء
1/8/2018 10:30

لذكرى رحيل الخالة فيوليت دُر – جرّوس

وغابت شمس العطاء

بقلم: مَارون سَامي عَزّام

نمرُّ في نفق العُمر الطويل والمجهول، دون أن نعرف آخره، لكن نجد فيه مزيجًا من الأحداث، تجعلنا نتوقّف عندها، فغدَت واجهةً للتأمُّل، كذلكَ الأيّام ترحل مع قافلة الماضي، لتختفي بسرعة في أفق النّسيان، إلاّ ذكرى الخالة الفاضلة فيوليت جرّوس، لم ولن تغادر حجرة ذاكرتنا، لن تستطيع ممحاة الوداع أن تشطب يوم ذِكراها السّنوي من رزنامة الذّكريات.

كان لرحيلكِ الأثر الكبير في نفوسنا، بعد أن كنتِ ركيزة النّشاط التي اتكأ عليها أفراد عائلتكِ، الذين كانوا تحت إشرافكِ المنزلي والأُسري، ولولاكِ لم تَجرِ دورة أعمالهم بانسيابٍ تام، في عروق مسئوليّاتهم. جعلتِ أبناءك وأحفادكِ من صُلب أولويّاتكِ، تنعّموا في ربوع حنانكِ، ظلّلتِهم بأمومتك الوارفة بالتضحيات، كما استنشقوا عِطر تفاؤلكِ الفوّاح بالهِمّة القويّة، إلى أن قيّد القدَر حركتكِ في الشهور الأخيرة، وفي أواخر أيّامكِ وضعوكِ على عرش الرّاحة، وجعلوكِ مليكة عليهم، خدموكِ دون توقّف، ومهما تزاحمت أجندتهم اليوميّة بالمواعيد، سيظل ذِكركِ يتصدّر مذكّراتهم.

كانت مثالاً للعمل الدّؤوب، لم تعرِف التقاعس يومًا، هكذا كانت والدتها الرّاحلة نلي دُر، إن هذه الصّفة المميزة التي منحها إيّاها الباري عزّ وجَل، كلّلَت هامتها بإكليل الحيويّة، حَمّلتها درع العزيمة على مدى نصف قرنٍ وأكثر، عَلّمَت أبناءها معنى الإباء... ومدى أهميّة العمل الإنساني لخدمة الآخر. لن أنسى مساندتها للعَم الرّاحل مشيل جرّوس المِقدام، سواء على الصّعيدَين الخاص أو العام. شخصيّتها فريدة، استطاعت بميزان حكمتها أن تُرجّح كفّة التعقل... أن تكون جِسرًا للوفاق والحق.

لم تكُن الرّاحلة أم أكرم امرأة تقليديّة، كبقية النّساء البالغات، بل كانت سيّدة معرفيّة، عرفَت كل ما يدور حولها من أحداث سياسيّة... وكنّا ننتظر قدومها لزيارة شقيقتيها وردة وليلى عزّام، لتحكي لهما بأسلوبها الطّريف والبسيط عن المستجدّات الأخيرة، وكانتا مندهشتان من معلوماتها، كم أمتعَني كثيرًا حضورها الطّاغي... كانت جنديّة مُخلصة، لبّت نداء الواجب الاجتماعي قبل الأسَري، رفَعَت لواء الالتزام، لِذا حزنت عليها كل شفاعمرو، من أقارب وجيران ومعارف، الذين عرفوا قيمتها... قدّروا إكرامها للضّيف، على طبق وفائها للعادات والتقاليد.        

ذاكرتها القويّة، ظلّت رفيقتها طوال الوقت، لم تتوقّف يومًا عن مهاتفة شقيقتيها، للاطمئنان عنهما، حتّى قبل رحيلها بمدّةٍ قصيرة، كونها الأكبر سنًّا، اعتبرت نفسها مسئولة عنهما، وما زال صدى رنين الهاتف في منزل والدتي يرنُّ في أذُني، كلّما زرتها، ما زال صوت الرّاحلة أم أكرم يصدح في فضاءات حياتنا، اجتمعت فيه نبرات، اللهفة والاشتياق والقلق والمرَح، والترقّب.

انشغالها الذّهني بأشقائها طوال هذه السّنين، هو نشاط فكري آخر، يندمج ضِمن إطار نشاطها اليومي، ولم تتوانَ عنهم يومًا... كانت الغبطة تُزهِّر ترحابًا فوق وجنتيها، عندما كانوا يزورونها، واعتبروها الشّقيقة الواعية والمدبّرة، التي أحاطتهم بدائرة حِرصها عليهم من أي طارئ... شدة إيمانها بالرّب، زادها حبًّا للصّلوات، فكانت تصلّي في مَصلاها الرّوحي يوميًّا.

كم يعز عليّ أن أودّع خالةً فاضلةً، تفاصيل حياتها شيّقة ونادرةً، كأبناء جيلها، سيرتها الذّاتيّة مزدحمة بالمحطّات العامرة بأدق التفاصيل، عرفَت أن تتأقلم مع تقلّبات العصر، استطاعت أن تجاري تيّار الزّمن، الذي منحها العيش الكريم، أوصَلها إلى منزلة الآخرة بكرامة... عاشت مُعزّزة ومُكرّمة، وستبقى شمس عطائها تُشِع علينا دومًا، ولن تغيب خلف بحر الصّخب الذي نعوم فيه.