[x] اغلاق
جنون العظَمَة لا يموت
21/11/2018 8:31

حول مسرحيّة "بموت إذا بموت"

جنون العظَمَة لا يموت

بقلم: مارون سامي عزّام

بمناسبة حصول الصّديق والزّميل عفيف شليوط على جائزة صندوق أرديتي السّويسري، عن مسرحيّته "بموت إذا بموت"، أعيد نَشر مقالي التحليلي، الذي نُشِرَ في عام 2000، عندما عُرِضت في ذلك الوقت مسرحيّة "بموت إذا بموت".  

عندما سمعت باسم المسرحية "بموت إذا بموت" لم توحِ لي بشيء خاص، لم يتبادر إلى ذهني ماذا يقصد مؤلّف ومخرج المسرحيّة عفيف شليوط من وراء هذا العنوان الغريب جدًّا، المستقى من طلاسم علم الغيب، ولكن ما استطعت فهمه من العنوان، مدى شدّة تعلُّق البعض بعقدة الأنا، لحد مرَض تأليه الذّات، بحيث يلغي وجود الآخر. فضولي شدّني لمشاهدتها، مع أن السّير المسرحي معقد كثيرًا، يحتاج إلى شخص متخصص في علم النفس، للتعمق جيدًا في أحداث مسرحية "بموت إذا بموت". ولقد كنتُ بين "العدد الهائل من المشاهدين" للمسرحية!!

منذ بداية المشهد الأول؛ لحظة دخول الحاكم بخطوات عسكرية منتظمة الذي لعب دوره الفنان عفيف شليوط، يجُر خلفه خادمه المطيع، وأدى الدّور الممثل بيان عنتير، وهنا لعب دورَين مزدوجَين، دور الخادم ودور الجماهير الهاتفة "بكل بزعها" بحياة الحاكم، كما نشاهد في كل الأنظمة العربية. هذا الأمر لم يعجبني أبدًا إذ كان بإمكان المخرج عفيف شليوط إحضار بعض الكومبارس المسرحي، لأن هذه العناصر سوف تدخل عليها بعض الحيوية، لسد هذا الفراغ الذي شعرت به، أنا لا أدري لماذا لم يقُم الفنان عفيف شليوط بإدخال هذه العناصر؟ هل بقصد التوفير؟

عقدة جنون العظمة قضية في غاية التعقيد النفسي وتطغى على تصرف المريض. في المسرحية الحاكم هو شخصية متسلطة اجتماعيًا وسياسيًا، يستغل نفوذه من خلال مركزه الكبير وصلاحياته الواسعة، بالإضافة إلى كونها معقدة نفسيًا... العقدة النفسية من أصعب الأمراض النفسية، لأنها تكمن في العقل غير الواعي، ويصعب على الطبيب النفسي تشخيص مصدر هذه العُقدة النفسية، إلاّ بعد عدّة جلسات.

من هنا نشعر أن المسرحية تدخلنا في اللاوعي الفكري والحدثي، لأن المتفرج يفقد التصاعد الحدثي، فيعيش في حالة من الضياع، والارتباك الشديدين، لأن عملية الانتقال بين المشاهد غير مترابطة أبدًا مع المشهد الذي سبقه، لأن مدة المسرحية قصيرة جدًا لا تتعدى ساعة واحدة، مما جعلتني أخرج منها كما دخلت، دون أن أتفاعل مع أية شخصية، رغم أدائهما الجيد.

معالجة قضية جنون العظمة في ساعة واحدة، هذا أمر مستحيل. شعرت أن الكاتب عفيف شليوط كتب هذه المسرحية تماشيًا مع عصر السرعة الصاروخي الذي نحياه، لأن التطرق إلى قضية شائكة مثل هذه وجديدة من حيث المعالجة المسرحية، يحتاج إلى استشارة متخصصين في علم النفس، مثلما يحدث في بعض الأفلام العربية مثلا فيلم "جري الوحوش" للمخرج علي عبد الخالق، قصة وسيناريو المؤلف المعروف محمود أبو زيد، وقد قام باستشارة أطباء أخصائيين، ساعدته في كتابة القصة برؤية واضحة ومتكاملة، هذا الأمر كان سيساعد عفيف على كتابة نص مسرحي أوضح وأشمل من النص المكتوب، وكنّا شاهدنا أبعاد جنون العظمة.

هناك مشهد تطهير الحاكم من عقدة جنون العظمة، فنجد الممثل بيان عنتير ينجح في ذلك! عجبًا! فهنا تفقد المسرحية إيقاعها المسرحي غير المنتظم منذ البداية، هذا المشهد يجب أن يفتتح المسرحية، وذلك لصعوبة التخلص من هذه العقدة التي تقضي على الملامح الحقيقية للشخصية، تُحطّم العلاقات الاجتماعية، بمجرد أن يشعر الحاكم أنه شخصية إلهية فوق البشر.

لو أفتتح الكاتب عفيف المسرحية بهذا المشهد، لشعرنا بانطلاقتها الحقيقية، وشاهد المتفرج البسيط "بطولات الحاكم الجنونية" وتأقلم أكثر مع أجواء المسرحية، ليحل بعض رموزها المعقدة، لا أن يزيدها الكاتب تعقيدًا، ليبرهن لنا أنه يصعب على الحاكم الاستغناء أو التخلي عن عقدة جنون العظمة. لذا أراد عفيف شليوط إدخال مسحة من السخرية على شخصية الحاكم من خلال تطهيره من عقدته، من خلال معمودية الطهارة بدلو مليء بالماء.

عندما تبادل عفيف شليوط وبيان عنتير الأدوار، وقام عفيف بعد عملية التطهير بتقمّص دور الخادم وبيان تقمص دور الحاكم، ليعيش ولو للحظات جنون العظمة، هذا المشهد جميل، لأن البعض يحب أن "يتمتع" بجنون العظمة" وأن يكون له النفوذ والسلطة الواسعتين "ولو على خراب بيتو" وبأي ثمن، المهم أن يكون "شخصية مهمة في المجتمع"، للأسف موجود في مجتمعنا. عندما قدّم عفيف فنجان الشاي بتواضع، طالبًا عفو الحاكم وهو بيان عنتير، شرع يأمره أن يذهب إلى المطبخ ذهابًا وإيابًا، طالبًا منه تارة قهوة وتارة أخرى شاي على التوالي، كجزء من نشوة الحكم... هنا أراد الكاتب تحذير مؤسّسات مجتمعنا من خطورة تنصيب شخصيات لا تملك المؤهلات الثقافية والشهادات العلمية في مراكز قيادية.

يعود عفيف إلى لعب دور الحاكم، ويطلب من خادمه الاجتماع مع "أنياتو" أي مع ذاته، فوزّع الأخير على المتفرجين صور الحاكم، فهذا المشهد من الممكن أن يكون أجمل وأفضل لو قام الحاكم بمراجعة نفسه، وأن يحاسب تفكيره على أعماله، لنفهم لماذا هو يتصرف هكذا؟ وما هي الدوافع النفسية التي أدت إلى تكوّن عقدة جنون العظمة عنده؟ كيف عاش طفولته؟ لوجد المتفرج نفسه متوغّلاً بأحاسيسه وتفكيره، متعمّقًا في المسرحية.

في المشهد الأخير من مسرحية الممثل القدير دريد لحام "كاسك يا وطن" عندما قام بمخاطبة صوت أبيه الشهيد، لخَّص فيه مجمل المسرحية... هكذا فهم المشاهد العربي أبعاد المسرحية، ولكن أن يتفاخر الحاكم بذاته من خلال اجتماعه مع "انياتو" فهذا أمر سخيف جدًا وسطحي للغاية، يخلو من أي بُعد اجتماعي إرشادي.

ممكن حذف مشهد الاجتماع مع "أنياتو"، واستبداله بمشهد ملاحقة الموت للحاكم... وأدّى الدّور الممثل بيان عنتير، فشاهدنا مدى ضعف الحاكم أمام عظمة الباري، أظهَر لنا المشهد مدى قوة تأثير سلطان الرب على النفس البشريَّة حتى على الحاكم ذاته. معضلة تأليه ذاته بدأت تنهار في ثوان، رغم تحنّنه المتكرر، ليتركه ملاك الموت، لكن دون جدوى. هذا المشهد أعطى المسرحية بُعدًا دينيًا مصيريًا واجتماعيا في آن واحد، فالحاكم وقع بين فكّين، الأول أنه لا يستطيع تجاهل مصيره المحتوم المكلّل بمشيئة ربه، الفك الثاني أنه يصعب عليه رؤية جنون عظمته يتحطم أمام عينيه وخصوصًا أمام شعبه.

يموت الحاكم أخيرًا بعد أن صعِدَ منصة عالية، إنها تمثل قمة تأليه الذات، لأنه اعتقد أنه نجا من الموت، إلا أنّنا في النهاية نراه ينال عقابه... هذا هو مصير جنون عظمته، بعد أن وجد نفسه فوق البشر، فوق إرادة الرب، وهذا مستحيل، أي أن الانتقام، لا بد أن يأتي سواء على يد الإنسان، أو ينال جزاؤه في دينا الآخرة. نجد بمسرحية "بموت إذا بموت" بعض الايجابيات، ولكنها لا تخلو من السلبيات التي ذكرتها في سياق المقال، ومثلما استنتج البروفيسور نورمان مون: "إن الفشل في الاحتفاظ بالسيطرة أو الحصول على النجاح هو من منابع عقدة النقص وعقدة العظمة".