[x] اغلاق
أهمية أن تكون إنساناً؟!../ علاء الأسواني
5/1/2010 13:19

عزيزي القارئ ..
تخيل أنك مواطن غربي من السويد أو فرنسا أو الولايات المتحدة .. هل تفضل أن تقضي إجازة عيد الميلاد ورأس السنة في بلدك أم تحب أن تقضيها نائما على الإسفلت في شوارع القاهرة؟ الاختيار الأول طبيعي لأن كل إنسان يحب أن يقضي الأعياد منعماً مكرماً وسط أهله، أما الاختيار الثاني فهو ما فعله 1400 ناشط أجنبي من محبي السلام ينتمون الى 42 دولة حول العالم، جاؤوا الى مصر ليعلنوا تضامنهم الكامل مع الفلسطينيين المحاصرين في غزة، وقد حملوا إليهم كل ما أمكنهم من الأغذية والأدوية ..

وافقت السلطات المصرية في البداية على استقبال هؤلاء الناشطين لكنهم لما وصلوا الى القاهرة قررت فجأة منعهم من دخول غزة، ولما اعتصموا واحتجوا، حاولت الحكومة أن تصرفهم وقدمت لهم رحلات سياحية مجانية، لكنهم رفضوا وأصروا على إيصال الطعام والدواء الى الفلسطينيين.. عندئذ قامت الشرطة المصرية بالاعتداء عليهم وسحلهم على الأرض وضربهم بوحشية..

هذه الوقائع المؤسفة تحمل أكثر من معنى:
أولا : هؤلاء الناشطون الأجانب مثقفون وكتاب وفنانون ومهنيون، أي انهم يتمتعون بحياة كريمة في بلادهم وبعضهم بلغ مرحلة الشيخوخة التي يحتاج فيها الى الراحة.. لكنهم جميعاً يتمتعون بضمير إنساني يقظ، جعلهم يرفضون أن يقفوا متفرجين على تجويع مليون ونصف مليون فلسطيني في غزة، بعد حصار إسرائيلي خانق استمر لأكثر من عامين، ومجزرة استعملت فيها إسرائيل الأسلحة الممنوعة دولياً، مما أدى الى مقتل ألف وأربعمئة شخص معظمهم من المدنيين.

إن هؤلاء الشرفاء الذين جاؤوا من بلادهم ليدافعوا عن حقوق أهلنا في فلسطين، مجرد عينة من محبي السلام والعدالة في الغرب.. هؤلاء الذين يتظاهرون ضد العنصرية وتوحش الرأسمالية وسياسات العولمة وتدمير البيئة بواسطة الشركات الصناعية العملاقة... الذين خرجوا في تظاهرات بالملايين لإدانة العدوان الأميركي على العراق.. وهم وإن كانوا لم ينجحوا، حتى الآن، في التأثير على صناع القرار في حكوماتهم إلا أنهم يتبنون حركة واسعة تزداد قوة وشعبية يوما بعد يوم.

ثانيا: الدرس الذي يقدمه هؤلاء الناشطون الأجانب أن واجبنا الأول الدفاع عن المضطهدين في أي مكان وأن انتماءنا للإنسانية يجب أن يسبق أي انتماء آخر. السؤال هنا: هل يعتبر أي واحد منا نفسه في المقام الأول مسلماً أو قبطياً أو عربياً أم انه يعتبر نفسه إنساناً قبل أي شيء؟ الإجابة الصحيحة ليس فيها تناقض. لأن الديانات جميعا جاءت لتدافع عن القيم الإنسانية الكبرى: العدل والحق والحرية. لكننا في اللحظة التي نعتبر فيها أنفسنا أفضل من سوانا في الدين أو العنصر سرعان ما ننحدر الى الكراهية والتعصب.. في الأسبوع نفسه الذي وصل فيه هؤلاء الأجانب حاملين المساعدات الى أطفال غزة صدرت دعوات متطرفة مؤسفة في مصر تحذر المسلمين المصريين من مشاركة إخوانهم الأقباط في الاحتفال بعيد الميلاد المجيد.. هنا تتمثل أمامنا رؤيتان متناقضتان للعالم، واحدة متسامحة تدافع عن حقوق البشر جميعا، بلا تمييز، والأخرى متطرفة تكره المختلفين عنها وتحتقرهم ولا تعترف بحقوقهم...

إن معظم هؤلاء الناشطين الأجانب ينتمون الى الديانة المسيحية، وبعضهم يهود، لكنهم معادون بشدة لسياسة إسرائيل الإجرامية. وقد جاءت معهم سيدة على كرسي متحرك عمرها 85 عاما اسمها هيدي ابستين، وهي إحدى الناجيات من المحرقة التي أقامها النازيون لليهود، وبالرغم من شيخوختها وصحتها المتدهورة، أصرت هذه السيدة على أن تحمل بنفسها الطعام والهدايا لأطفال غزة... لعل في هذا التضامن الإنساني الراقي ما يجعلنا نتريث قبل أن ننساق الى الأفكار المتطرفة التي ترى في المسيحيين واليهود، جميعاً بلا استثناء، أعداء للإسلام والمسلمين.

ثالثا: الاعتداء الهمجي العنيف الذي تعرض له هؤلاء الناشطون على أيدي أفراد الشرطة المصرية، تم تصويره بعشرات الكاميرات وهو يبث الآن عبر الإنترنت في كل أنحاء العالم.. وقد رأيت بنفسي تسجيل فيديو يظهر فيه ضابط مصري وهو يجذب متظاهرة أجنبية من شعرها ويسحلها على الأرض ثم يوسعها ضرباً وركلاً بيديه وقدميه.

هكذا يثبت النظام المصري أنه لم يعد يتورع عن ارتكاب أية جريمة من أجل إرضاء إسرائيل حتى تضغط على الإدارة الأميركية لتقبل بتوريث الحكم من الرئيس مبارك الى ابنه جمال.

ما زالت وسائل الإعلام المصرية مستمرة في ترديد الأكاذيب من أجل تبرير جريمة الجدار الفولاذي الذي يقضي على آخر فرصة للفلسطينيين في الحصول على الطعام والدواء.. كل يوم يخرج علينا منافقون من أعضاء الحزب الحاكم ليؤكدوا أن الجدار الفولاذي ضروري وأن الأنفاق بين مصر وغزة تستعمل في تهريب المخدرات وفتيات الليل الروسيات (!)..

هذا الكلام الخائب لم يعد يقنع أحداً. إن سمعة النظام المصري، العربية والدولية، لم تكن في أي وقت أسوأ مما هي عليه الآن .. إن عبارة «تواطؤ الحكومة المصرية مع إسرائيل في حصار غزة» تتردد الآن بقوة في وسائل الإعلام العالمية.. على أن الاعتداء على الناشطين الأجانب يكشف أيضا أن الحكومات الغربية واقعة بالكامل في قبضة التأثير الصهيوني، فهؤلاء الأجانب الذين تم سحلهم وضربهم في القاهرة، لو تعرضوا لأقل اعتداء في ظروف عادية، لكانت سفاراتهم قد بعثت إليهم فوراً بمندوبين ومحامين وبذلت كل جهدها للحصول على حقوقهم. لكنهم هذه المرة يمارسون نشاطاً علنياً معادياً لإسرائيل وبالتالي لاذت سفاراتهم في القاهرة بالصمت.. بل إن الحكومات الغربية التي تثير ضجة كبرى عندما يقمع المتظاهرون في الصين أو إيران (أو في أية دولة تتبنى سياسات معادية للغرب)، لم تنطق بكلمة وهي تشاهد مواطنيها يسحلون في شوارع القاهرة.. والسبب أنهم يتظاهرون ضد إسرائيل التي لا يستطيع سياسي غربي واحد أن يغضبها ويفلت من العقاب.

أخيرا .. يبقى سؤال محرج: اذا كان هؤلاء الأجانب قد قطعوا آلاف الأميال وتركوا حياتهم المريحة ليفكوا الحصار عن أطفال غزة، فماذا فعلنا نحن المصريين..؟! ألسنا أولى من الأجانب بنصرة أهلنا في غزة؟

صحيح أن المصريين جميعا متعاطفون تماما مع إخوانهم في غزة، لكن رد فعل الشارع المصري يظل أقل بكثير من الواجب .. لماذا لم يخرج ملايين المصريين الى الشوارع ليضغطوا على النظام من أجل فك الحصار عن غزة؟ الأسباب عديدة وأولها القمع.

في البلاد الديموقراطية من حق الإنسان أن يتظاهر تعبيراً عن رأيه، التظاهرات هناك تخرج في حماية الشرطة، أما في مصر، المنكوبة بالاستبداد، فإن كل من يتظاهر يتعرض الى الاعتقال والضرب والتعذيب في مباحث أمن الدولة.

أضف الى ذلك، أن كثيراً من قادة الرأي العام في مصر إما متواطئون مع الحكومة أو خائفون من إغضابها.. وهكذا بينما كان الناشطون الأجانب يتلقون ضربات الأمن المركزي وهم يهتفون «الحرية لغزة»، لزمت أحزاب المعارضة المصرية الصمت البليغ بينما اكتفى الإخوان المسلمون بإدانة الجدار في مجلس الشعب ولم ينظموا تظاهرة واحدة في الشارع.

ويبدو أن تنظيم التظاهرات عند الإخوان المسلمين، مسألة صعبة للغاية تخضع لحسابات معقدة لم يعد بمقدور أحد أن يفهمها. وقد فوجئ المصريون بفتاوى شرعية رسمية تؤكد أن إقامة الجدار الفولاذي لخنق الفلسطينيين حلال شرعاً.

هكذا أكد أعضاء مجمع البحوث الإسلامية وشيخ الأزهر ومفتي الجمهورية ووزير الأوقاف.. أما مشايخ السلفيين فقد أبدوا تعاطفهم الكامل مع أهل غزة لكنهم في الوقت نفسه نهوا أتباعهم بشدة عن التظاهر، وهم يؤكدون أن التظاهرات غير مفيدة إطلاقاً لأنها لن تغير شيئاً، كما أنها قد تضم نساء سافرات غير محجبات (!).

هذا المنطق المتخاذل الذي يخلط الأولويات يفسر سبب تسامح النظام المصري الدائم مع مشايخ السلفيين الذين يتشددون دائما في العبادات والمظاهر أما في السياسة فهم يعرفون الخطوط الحمراء جيداً ولا يتجاوزونها أبدا...

إن المصريين، مثل الفلسطينيين، محاصرون تماما بجدار فولاذي من الاستبداد والظلم والقمع يخنقهم ويحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية.. الجدار واحد والهم واحد والخلاص أيضا ـ بإذن الله ـ واحد.
الديموقراطية هي الحل ..
"السفير"