[x] اغلاق
لـم تُنذرنا برحيلِكَ
17/11/2020 10:08
لـم تُنذرنا برحيلِكَ

لذكرى مرور عشرين عامًا على رحيل الخال باسم فريد الدر

بقلم: مارون سامي عزّام

 

في ذلك الصباح من يوم الأحد، المشمس بالفرح، قرعت أجراس الكنيسة، تدعوكَ إلى الصلاة، النّهج الذي لم تحِد عنه يومًا، وبشكل مفاجئ، دون أن تتأفف أو تتأوه، سمعتَ صوت صفّارة الوداع، وهو يرتفع رويدًا رويدًا، وخلال لحظات الترقّب التي وتّرتنا، بدأت طبول الخوف تدق في صدورنا، حاولتَ قدر استطاعتكَ أن تتمسّك بطوق النجاة من الغرق في ظلمة الموت، ولكنّكَ لم تعترض على مشيئة الرب، رافعًا عيناك إلى الله مُناجيًا:" في يديك أستودع روحي"، وأسلمت الروح بهدوء لا يوصف، شهادة منه على إيمانك القوي. 

سطا قرصان القدر على سفينة عمرك الطويلة، وهي ما زالت تمخر عباب بحر الحياة الغدار، سارقًا منها ما تبقّى لكَ من ودائع الأيام والسنين، سلبَ منها غنائم آمالك وتوقّعاتكَ... نَشَلَ منك قرصان القدر ساعة الوداع الثمينة، ولم يأذن لكَ أن تودّع زوجتك وأولادك وأحفادك الوداع الأخير. في ذلك اليوم المبارك توشّح وجه السماء بوشاح الأسى الشاحب، تكحَّلت عين الشمس بكحل أسودٍ قاتم، حدادًا على رحيلكَ.  

محفِل الأيام كان يخطّط ليضع عمرك على مسار الآخرة، دون أن تشعر بذلك. رحيلكَ المستعجَل هزّ مشاعر الجميع من الصميم، وكأنّك كنتَ على موعدٍ مع واهب الحياة، فجّرت ينابيع الذّهول في عيون جميع من عرفكَ، شقَقَتَ أرض الوجود إلى شقَّين، أخرجتْ من جوفها واقعًا مريرًا لم يكُن يتوقعه أحد. فاضت شلاّلات الدموع من مآقينا، فنَبَتَ أقحوان الفراق القبيح فيها حالاً. لقد كانت بشاشتك فولكلورًا رائعًا في حياتك اليومية، أصبح الجميع ينظر إلى واجهة تعاملكَ المحبّب واللطيف معهم، لينسوا همومهم. 

لم تشغلكَ أبدًا هموم العصر، فكل ما يشغلك كان راحة أهل بيتك، الذين تَنَعموا بمواسم خيرك الدائمة، شربوا من خمرة حبك لهم. كنت لهم ذلك الفانوس الذي أشع نور سخائك عليهم. كنت شديد القلق، إذا سمعت أن أحد أقاربك يعاني من مرض أو أصابه مكروه ما، فكنت لا تعرف الراحة، إلا إذا زرته في بيته، فلا يهمك نوع مرضه، المهم أن تخفف عنه وطأة آلامه. 

تعاملك مع الحدث ببساطة وطيبة قلبك، جسّدَا فيك الطبيعة المسالِمَة. احترمتَ جميع الدّيانات، واظبت على المشاركة في كافّة الطقوس، لم تفوّت أي مراسِم دينية، اعتبرت الكنيسة بيتًا روحيًّا لجميع المذاهب المسيحية، كنت رفيق الكهنة، الذين تمتعوا بصحبتك، لطهارة نفسك ونقاوة سريرتك، وشدة عطفك عليهم وتعاطفكَ معهم. 

في مناسبات الفرح كنت مفتاح الانشراح والانبساط، كانت رقصتك عنوانًا شرعيًا لروحك الخفيفة التي لم تتعب بتاتًا، وحركاتك الخفيفة شريعة من شرائع نشر البهجة بين المحبّين، منديلك الأبيض الذي لوّحت به، كان راية سعادتك البيضاء الخفّاقة بالحماسَة... تأكّد أنها ستظل ترفرف في أجواء أفراحنا دومًا. لم يتضايق منك أي إنسان مهما صَدَرَ منك، لأنّهم أحبّوا فيك ذلك الطفل البريء الذي بداخلك. 

ستبقى ذكرياتك مع أي فرد منا، هو الرابط الوحيد مع ماضيك الجميل المفعم بالحيوية... في يوم ذكراك السنوية سنجتمع حولها، لنتذكّر تلك الأيام الرائعة التي أمضيناها برفقة دعابتك المرحة والمسلية، كي يبقى صدى صوتك القوي يجلجل بشدة في أرجاء بيوتنا. 

ستُحلّق أجواق الملائكة حولك بفرح ربّاني، بعد أن حظيتْ السماء برسولٍ أرضيّ مؤمن وتقيّ، ربّى أولاده على مخافة الله، علّمهم أن يحفظوا وصاياه والعمل بها، لتحفظهم من أي سوء ومعصية، علَّمهم أن الفرح الدنيوي هو فرح آني غير دائم، وعليهم أن يكونوا مستعدّين دومًا للفرح الأزلي، كما كنت دائمًا مستعدًا لملاقاة ربك راضيًا مرضيًّا. 

أبو الياس أريد أن أقول لك: "وداعًا يا من رحلتَ دون إنذار... وداعًا يا من شيَّدتَ لنا جنات الفرح... وداعًا يا من صليت في ملكوت الإيمان... وداعًا يا من علَّقتَ الصليب على صدرك، فضممته بحنوٍّ شديد، إلى أن ضمّك برفق وهدوء في ذلك الصباح المبارك إلى ملكه، ليجعل من الصلوات مسبحة أزليّة، تُسبّح بها في سماوات الراحة والسَّكينة".