[x] اغلاق
أمــام واجهــة التّاريــخ
27/5/2021 9:18

من صفحات ذكرياتي

أمــام واجهــة التّاريــخ

بقلم: مارون سامي عزّام

تاريخ أي بلد مُعَرّض للإهمال والنّسيان، إذا لم نجد من يهتم به ويُقدّر قيمته... إذا لم نجد من يكتب أو يتحدّث عنه بشغف شديد... هنا لا أتكلم عن مؤرّخين أو باحثين، بل عن شخصيات عاصرت تاريخ بلدها منذ طفولتها، رافقت ذاكرتها أحداثه، وما زالت تسعى لتوثيقه، مثل الأستاذ الياس جبّور، الذي حلّ ضيفًا على برنامج "وجهًا لوجه"، وقدّمه الممثّل محمّد بكري، عبر التلفزيون الفلسطيني.

جو البرنامج كان يخلو من لياقات تقديم البرامج المعتادة، لأنه يتميّز بالعفوية والتلقائية، لإظهار الضّيف بدون أي تكلّف. البرنامج لا يُعرض داخل استوديوهات مجهّزة ومكيّفة، بل يقوم مُقدّم البرنامج بزيارة الضيف في بلدته، لأن هذه ركيزة البرنامج الأساسيّة، وهي الخروج عمّا هو متّبع في البرامج الحوارية، ليمنح الضّيف شعورًا بالعفويّة، يُظهره على طبيعته، ليتفاعل شعوريًا وتاريخيًّا مع معالم بلدته، فيُحدّثنا عنها من خلال الحوار المتّزن والمسئول، كما شاهدنا في حلقة الأستاذ الياس جبّور.

لا شك أن الفنّان محمّد بكري، كان مستعدًّا جيدًا لإجراء المقابلة، ويَعلم أنه آتٍ ليقابل شخصية اجتماعية لها قيمتها في المجتمع العربي، وبإمكاني القول، إن الأستاذ الياس شخصيّة متعدّدة الموارد الثقافية إذا جاز التعبير، تطرّق أيضًا في حديثه لعدّة جوانب اجتماعية تقليديّة، يجهلها الكثيرون، منها الصلحة، وأهميتها وماهيّتها، وأكثر ما ركّز عليه هو تاريخ شفاعمرو المجيد، الذي بقي همّه الأول والأخير.

خلال البرنامج لاحظت على أبي جبّور أنه كان شديد التأثّر، خاصة عندما تحدّث عن الماضي التليد لشفاعمرو... وتعلّقه الشّديد بوالده الرّاحل جبّور يوسف جبّور، الرّئيس السابق لبلدية شفاعمرو، ويعتبره مُعلمه الأول، وهو بمثابة أيقونة وطنيّة، تُزيّن صدر الكرامة محليًّا وقُطريًّا، شريعته المبادئ التي لم يحِد عنها، والرّاحل جبّور جبّور، جزء لا يتجزأ من تاريخ شفاعمرو.

كُلما سأل الفنان محمّد بكري أبو جبّور عن طفولته وعائلته، اختصر الإجابة، ليأخذه في جولة من الذّكريات حول ذاكرة العصر الذّهبي الذي عاشه أجدادنا، وصولاً إلى النكبة، لأنه أراد من خلال المقابلة أن يوصل رسالةً إلى العالم العربي، أنّنا ما زلنا نُعاني من آثار النكبة، لأن عمليّة مصادرة أراضي الآباء والأجداد، أصبحت ندبة في تاريخ عرب إسرائيل، لا يمكن إزالتها، رغم كل ما وصلنا إليه من مدنية وعصرنة.

جرت المقابلة في بيت أبي جبّور، الذي عاصر أحداثًا تاريخيّة مفصليّة ومؤثّرة... ارتاده أكبر الشخصيات السياسية والعربية والفلسطينيّة... جلسوا في الصّالون، فراح أبو جبّور يروي لمحمّد بكري عن الصور التاريخية المعلّقة على الجدران، والتي أضافها إلى كتابيه اللذين أصدرهما عن شفاعمرو، تسنّى لي الإشراف على تنضيدهما، وتصميم غلافهما الخارجي.

الشّيء المميّز في المقابلة، أن معظم أجوبة الأستاذ الياس جبّور، كان فيها مدخلاً حنونًا، ليس فقط إلى تاريخ شفاعمرو، بل أيضًا إلى روعة العادات والتقاليد التي كانت سائدة آنذاك بين جميع الطّوائف، التي اجتمعت على بساط التآخي والأُلفة، وما زال إلى يومنا هذا مزركشًا بزخارف الوحدة. هذه الأجوبة تدل على حرص أبي جبّور على ماضي مدينته، وتمسّكه بأصالتها، وانصهار فِكره بإرثها الأثري وبتراثها.

خلال مشاهدتي للبرنامج، شعرتُ أنّني جلست أمام واجهة التّاريخ، فتخيّلت أروع محطّات ذلك الزّمن الجميل الذي عاشته شفاعمرو، تخيّلت أن هذه الواجهة عَرَضت أمامي صُورًا نادرة بالأبيض والأسود، تحكي عن الأحداث التي بلورت تاريخ شفاعمرو العزيز على قلوب الجميع، لأنه عندما يريد أي شخص الكتابة عنه، أو حتّى التّحدّث به، يجب أن يتملكه شعور بالمسئولية تجاه مصداقية تاريخ بلده، وأن يراعى مشاعر أهلها ونسيجها الاجتماعي، لذلك الأستاذ الياس جبّور من خلال برنامج "وجهًا لوجه"، أظهَرَ أنه حقًا يتحلى بهذه الصّفات.