[x] اغلاق
وداعًا أبا هشام...
28/7/2021 8:10

وداعًا أبا هشام...

بقلم: الدّكتور إيهاب حسين

لستُ ممّن يتقنون فنّ الرّثاء، ولستُ ممّن يحترفون التّنبيش عن المفردات والعبارات تضخيما للنّصّ، إنّما اخترت أن أكتب هذه الورقة عرفانا وامتنانا لإنسان عرفته عن كثب خلال عملي كمركّز للفعاليّات الميدانيّة في مجمع اللّغة العربيّة.

اقتصر عملي في المجمع على التّنسيق بين الأدباء المحلّيّين وبين إدارات المدارس بغية تنظيم منصّات أدبيّة هادفة تقرّب طلّابنا من أجواء الأدب وحيثيّاته على تفرّعاتها وتشعّباتها، وبناءً عليه زوّدتني إدارة المجمع بقائمة تشمل الأدباء من كتّاب وشعراء، وكان اسم الكاتب محمّد نفّاع في رأس القائمة، فبادرت إلى التّواصل معه منتهزا فرصة الاستماع إلى كاتب مرموق عرفناه من خلال فضاء النّصّ وحدود صفحاته وسطوره فحسب.

أذكر محادثتي الأولى معه قبل خمسة عشر عاما وقد كانت مشحونة بالحماس وبعض التّوتّر الّذي استحكم بي، ومن كلماته الأولى لمست ترحيبا وتشجيعا خفّف من وطأة التّوتّر فقد أمدّتني تلك الكلمات بطاقة وحيويّة تتناغم مع الموقف، ولمستُ في صوت أبي هشام البساطة والتّواضع، كما لمحت في ثنايا نبرة صوته روح الدّعابة الّتي طالما ميّزته ولازمته طويلًا.

بعد التّعريف بنفسي ووظيفتي ومنظومة عملي أخبرت الكاتب محمّد نفّاع أنّ الأديب يتقاضى مقابل كلّ منصّة أدبيّة يشارك فيها مبلغ خمسمائة شيكل، وذلك ممّا يسري على جميع الأدباء، فساد صمتٌ مطبق أرهبني وأحرجني، فتساءلت ما سبب صمت الرّجل؟ لعلّي أخطأت في مخاطبته، لكنّ الصّمت لم يدم طويلا، فقد علا صوته المحتجّ: "أستاذ إيهاب، أرى في عرض المال عليّ إهانة لي ولوطنيّتي، أرجو ألّا يُعاد الحديث عن المال بيننا". فاعتذرتُ، علما بأنّني لم أقصد الإساءة بل التّوضيح، لكنّني تيّقنتُ أنّني في حضرة نموذج إنسانيّ قلّ شبيهه في عالم تستحكم فيه المادّيّة البغيضة، وعلمتُ أنّ الخير ما زال حاضرا مترسّخا يضرب جذوره في هذه الأرض بقوّة مهما طغت المادّيّة.

في الحلقات الأدبيّة الّتي استضفتُ فيها الرّجل وجدتُ أجواء شائقة، كيف لا وصاحبنا يتقن حرفة السّرد ويتفنّن بها! فتراه يسيطر على مسامع الطّلّاب والمعلّمين معًا، يثير الاهتمام والفضول، ويحفّز المتلقّي على طرح السّؤال، وتراه صاحب بديهة حاضرة في تعاطيه مع أيّ استفسار أو استيضاح، يجرّ سامعيه إلى تفاصيل الطّفولة معتبرًا إيّاها "مسرح الشّقاوة"، فينتقل فجأة إلى النّضالات السّياسيّة الّتي كانت جزءًا من أجندته وثوابته الّتي لا تقبل المساومة، ثمّ تسحبه الذّاكرة إلى مشاهد المهجّرين المشرّدين النّازحين إلى لبنان وقد مرّوا بحقول قريته، وتلمس دمعة صوته حين يصف مشهد وفاة طفلة نهشها التّعب والجوع والعطش، وكم حاول أن يحبس دمعته عند سرد الحدث، تلك الدّمعة الّتي لامست قلوبنا في نصّ قصّته "مختار السّمّوعي"، وتراه  يسرد لك عن النّضال العمّاليّ مستعرضا ما يكابده العامل العربيّ من نكبة الاحتلال من جهة، ومن قسوة المشغِّل من جهة أخرى، وتراه يمتح الخيط بين "النّكبة" و "النّكسة" بسخرية سوداء تضحكك وتبكيك في الوقت ذاته.

حقًا كانت منصّات كاتبنا غنيّة ومثرية وشائقة، فقد نجح في أرشفة نبض شعبنا في أفراحه وأتراحه، في نكبته وفي نهضته، وفي نهاية كلّ فعاليّة كان يحظى كاتبنا باحتفاء شديد من قبل الطّلّاب والمعلّمين على حدّ سواء، وبعد الاحتفاء يأتي الشّكر والتّقدير والعرفان، وجميعها تتمثّل بدروع تزدان بعبارات التّكريم لرجل يستحقّ التّكريم والتّبجيل، ويتقبّل الكاتب الدّروع وباقات الورد بابتسامة معهودة وخجل وامتنان قائلا إنّه لا يستحقّ هذه الحفاوة.

وبعد هذا كلّه أتوجّه لأبي هشام طالبا منه أن نتكفّل في تغطية تكاليف سفره ذهابا وإيّابا، ذلك أنّه رفض تقاضي الأجر مقابل الفعاليّة، فليس من اللّائق أن نُثقِل عليه في تكاليف السّفر أيضًا، بيد أنّه كان جازما في رفضه دون أن يبقي لي متّسعا للمناقشة، قاطعا الأمر في قوله: "المردود المعنويّ يغنيني عن المادّة، فحين أرى أبناء شعبي من طلّاب ومعلّمين ومديرين تغمرني السّعادة وأشعر أنّني أؤدّي واجبي الوطنيّ والإنسانيّ، فأتبادل أطراف الحديث معهم وأستشفّ من كلامهم وبريق عيونهم الأمل والتّفاؤل، وذلك أعزّ شأنا من أموال الدّنيا كلّها".

 

رحل أبو هشام، ولعلّ في رحيله ما ينجّيه من الأيّام السّوداء الّتي تنتظر مجتمعنا المنكوب اجتماعيّا واقتصاديّا وسياسيّا، رحل الأديب ونحن في أمسّ الحاجة إلى الأدب وما ينتج عنه من تهذيب للنّفوس وإصلاح لها، أَلَيْسَت الآداب مصلحة الأفراد والجماعات!

سنفتقد الكاتب المناضل كما يفتقد التّائهُ بوصلته، فمجتمعنا يتخبّط وينزف في مدارات الضّياع والتّشتّت والتّفكّك، وما أشدّ حاجتنا لأهل الحكمة والإصلاح من أجل تخطّي واقعنا الرّاهن الّذي يعتبره الكثيرون نكبة لا تقلّ خطورة عن نكبات ونكسات الماضي القريب والبعيد معًا.