[x] اغلاق
لذكرى رحيل الخال، غسّان فريد الدُّر، (أبو أسامة) : القـريـب من ذاكـرَة الوطــن
26/10/2021 6:35

لذكرى رحيل الخال، غسّان فريد الدُّر، (أبو أسامة)

القـريـب من ذاكـرَة الوطــن

بقلم: مارون سامي عزّام

تَحمِل قوافل العُمر أحمال السّنين، السّائرة على درب الحياة الطويل... تَحمِل معها أمتعة الأيّام الجميلة والقبيحة... كما تَحمِل لوازم اللحظات التي استخدمناها من أجل أن نتأقلم مع الظّروف... أمّا الأصعب، أن قوافل العمر حَمَلَت معها أحباء لنا، الخال غسّان الدُّر، الذي رحل عنّا مؤخّرًا في الولايات المتحدة الأمريكيّة، هذه الدّولة رغم عَظَمَتها، لكنّها لم تُغيّر طباعه... لم تنزع عنه صفة عروبته.

كانت زيارته الأخيرة للبلاد، في عام 2018، حينها ناداه الحنين إلى أهله، الذين لم يتركوه يعاني من الغربة الموحشة، بل كانوا يتابعون مجريات أموره، كما كان هو أيضًا على اطّلاع دائم على آخر المستجدّات العائليّة، تفاعل مع أي حدثٍ أو مناسبة عائليّة، سواء مفرحة أو محزنة، فأخذته أولويّات تفكيره نحو معرفة التفاصيل كاملةً. كثيرًا ما كان يترك أشغاله، ويقطع محيط الغياب المخيف، ليتعايش معنا بحسّه الإنساني والوطني العاليين، وكلّما أراد إزاحة كاهل الاغتراب الثّقيل، كثّف زياراته لبلدته، التي تركها منذ ستين عامًا وأكثر، مُجدّدًا هويّة انتمائه لأرضه ولشعبه. 

كان همّه الوحيد أن يكون حاضرًا جسديًّا بيننا، ليكسر جدار البعد الشّاهق، حتّى يقصّر مسافة الفراق القسري. أبو أسامة خلال وجوده في أمريكا، استطاع الخروج من العزلة المجتمعيّة التي عاشها، بجعل منزله في ولاية كاليفورنيا، استراحة دائمة لجميع الشفاعمريين، القادمين من مدينة الذّكريات... استقبلهم بكَرَمِه، آواهم بلطف معاملته، راعاهم بعنايته الأبويّة، ولهفته عليهم، فكانوا يبادلونه بالمثل وأكثر.

في شفاعمرو، جمعته أحضان الشّوق بإخوته، فتعانقوا اشتياقًا، بشاشة ملامح أبي أسامة، ذوّبت همومه في أعماق صبره، دون أن نشعر أنه يعاني من لوعة الافتراق، بل تغلّب عليها، بانصهاره الكلّي مع أقاربه ومحبّيه. في كاليفورنيا كان الرّاعي الأمين لزوجته الفاضلة عبلة، الوصيّ على رعايتها، المدبّر الأوّل لشئون منزله، اعتبره أولاده ليس مجرّد أبٍ لهُم فقط، بل صديقهم ومرجعهم وقت الضَيق. خفّة ظلّه، كانت المظلّة الكبيرة التي اجتمعنا تحتها. لن أنسى حديثه الشّيق والمفصّل عن قصّة هروبه من البلاد، عام 1957، المليئة بمحطّات تاريخيّة مؤثّرة جدًّا، أحداثها بلورت نهج حياة الرّاحل، أنصتنا إليها ونحن بغاية الاندهاش، كأنّنا استمعنا إلى رواية خياليّة مثيرة، لما تحتوي على تشويق وإثارة. 

عندما كان يلتقي برفاق طفولته، كانت السّعادة لا تسع دنياه، وكأنه التقى مع نصفه المفقود، كرّس لهم متّسعًا من الوقت، محاولاً بأي شكل من الأشكال، الاجتماع بهم بأي وسيلة، فهاتفهم لسماع صوتهم، كم نصبوا سويًّا خيمة ذكريات الشّباب الجميلة، التي أمضوها معًا. كان عشقه لشفاعمرو لا يوصَف، اعتبرها حبّه الأزلي الذي لم يستطِع التّخلي عنه، فكان يتجوّل بها سيرًا على الأقدام، مستذكرًا أحيائها، أزقّتها، أبناء عائلاتها العريقة، الذين ربطته بهم علاقات ودٍّ تاريخيّة، فاستأنس للقائهم.         

رغم تقدّمه بالسّن، وانشغالاته اليوميّة، إلاّ أنه ظلّ مخلصًا للغة العربيّة، ولم ينسَ سحر أدبها، وإبداعات شعرائها القدامى، إذ كانت ذاكرته تُخرِجُ العديد والعديد من الأبيات الشّعريّة، كان يلقيها على مسمعي، بفرح وشغف. خلال زيارته الأخيرة لنا، زارني في مكتبي، وكان يطلب منّي أن أستنبط له قصيدة ما، من محرّك البحث جوجل، لأطبعها له، فكان يطوي الورقة بعناية فائقة، حتّى بعد عودته لأمريكا، ظلّ على اتصال دائم معي، كي يطمئنّ عنّي وعن عائلتي، كعادته طلب منّي أن أرسل له عبر موقع التّواصل، مادّة أدبيّة.

أمر آخر خفّف عن الرّاحل غسّان الدُّر عزلته الاجتماعيّة، هو إنشاء صفحة خاصّة به على موقع التّواصل الاجتماعي، ممّا جعله يتقرّب منّا افتراضيًّا، فكان مطمئنًّا علينا أكثر، هذا عكس شدّة تعلّقه بأفراد عائلته في شفاعمرو، الذين يُشعلون له اليوم شموع الاشتياق، فأضاءت ذكراه بنور الحياة الأبديّة، أحاطته بهالة من الاحترام والتقدير لهذا الإنسان، الذي رحل عنّا في بلاد غريبة، ولكنه سيبقى قريب منّا في وطن الذّاكرة.