[x] اغلاق
عشرون عامًا والرّسالة واحدة
24/3/2022 10:39

عشرون عامًا والرّسالة واحدة

بقلم: زايد صالح خنيفس

السّادس عشر من شهر آذار 2002، كان بالنسبة لي يومًا خالدًا، إذ مرّ على وفاة والدي الشّيخ صالح حسن خنيفس عشرين عامًا، إذ وُلِدَ عام 1913، في بلدة شفاعمرو، لوالدٍ كان يعتبر أحد المراجع الدّينية والاجتماعيّة في المنطقة، مؤتَمَنًا على الوقف، وقد ألبسه رجال الدّين في فلسطين ولبنان عباءة المقلَّمة، مرسلاً ابنه البكر في عام 1935، ليتلقّى علومه الدينيّة، في خلوات البياضة العامرة في لبنان.

تلقّى الرّاحل أصول تعاليمه الدّينيّة على يد الشّيخ أبو يوسف، حسين حذيفي، طيّب الله ثراه، وفي الأوّل من شهر كانون الثّاني 1939، اغتيل والد الشّيخ صالح، واثنان من مرافقيه، على يد عصابات الذين ادّعوا الثّورة، فشكّل هذا الحدث الأليم نقطة تحوّل في حياة والدي الشّخصيّة. 

هذا الحدث المفجع أثّر على الوضع العام في المنطقة والبلاد، حيث تكلّلت في حينه هذه الأوضاع القاسية، إلى عقد راية الصّلح، بتدخّل من القائد العام للثورة العربيّة، المغفور له سلطان باشا الأطرش، وقيادات فلسطينيّة ومحليّة، تمثّلت بفتح صفحة من التّسامح بين الأطراف المتنازعة، أظهر والدي فيها حكمته المعهودة بحقن الدّماء، ومن هنا بدأت تتبلور شخصيته، وتحديد طريقه برفع مكانة أبناء عشيرته في البلاد، لأخذ دورهم الحقيقي.

احتفظ الرّاحل والدي خلال حياته بمستندات هامّةٍ، وسجّل يوميّاته الأوُلى في اليوم الذي قُتِلَ فيه والده، حتّى وفاته بتاريخ 2002/3/16. احتوى أرشيفه على حقائق ومستندات ورسائل دامغة، أظهرت في سطورها وملفّاتها الحقيقة التي حدّدت رؤية طريق نحو مستقبل مشرّف، وللأسف ذهب بعض المثقّفين ومن أرادوا توثيق كتبهم السّميكة، كتبوا عن تاريخ العلاقات بين اليهود والأقليّات العربيّة، كما يحلُو لهُم.

فهناك من اعتمد بكُتُبه على مرجعيّات تعُود لأرشيف كُتِبُ تاريخه ويوميّاته خدمةً لمخطّطاته، لأن مصالحهم تقتضي إخفاء حقيقة ما جرى وحدَث في نهاية سنوات الثّلاثين، وحتى نهاية الأربعينيّات، التي حدّدت مشهد بلاد لعبت فيها مصالح الدول، شاركت فيها شخصيّات معروفة، ادّعى بعضهم الوطنيّة والقوميّة، وفي الواقع كانوا تجّارًا، يبيعون أوطانهم بأبخس الأثمان.

الظّروف القاسية تكشف معادن البشَر، وتُظهِر الرّجال على حقيقتهم، والظّروف الصّعبة تصنع المحطّات التي تُحدّد نوعيّة البشَر، فقد يخطئ الإنسان بمحطات حياته، لكن الأصيل يبقى أصيلاً، ومن يعمل لا بُدّ أن يخطئ، لكن ما يُدخلك إلى مساحة المرّ هو الأَمَرُّ، والظّلم والاستقواء حِمل لا يحتمَله الأحرار.

عشرون عامًا مرّت كيوم واحد، فيها رسالة واحدة، بأن العمل الصّالح باقٍ، ومن زرَع الخير حصده في آخرته، ورايات الصلح التي عقدها، ما زالت ترفرف في القلوب والضّمائر الحيّة، وكما قال الشّاعر سلمان دغَش في رثاء المرحوم:

   فليس من فتنـةٍ إلاّ وأخـمـدها       وليس من عورةٍ إلاّ وواراها

وليس من محنة إلاّ وعالجها وليس مـن علّـةٍ إلاّ وأشفـاها

وتبعه في الرّثاء الشّاعر المرحوم، أمين أبو جنب، قائلاً في رثائه:

من يعقـد الرّايـات بــعـد رحليـكــم أو يملأ السّاحات نُبَـلَ كفاحِ

أفنَيتَ عمرًا طال في رحب الفضا عمـر النـّسور بغـدوةٍ وراحِ

كي تصنع المعروف في دار الفنا هنا لدار الحـق ربُّ صلاحِ

القادر هو الله، والعبد يبقى ضعيفًا، وإن كنتُ من الذين يؤمنون بأن لله رجال على الأرض، فإن هُم الرّجال أرادوا، فإن الله مستجيب، وإن سجّلت رقمًا عشرون عامًا، فإن رسالة الإنسانيّة واحدة، فلا أنسى ما كان يردّد المرحوم والدي: "من يستطيع خدمة النّاس، فلا يتوانى للحظةٍ"، ويتابع قائلاً: "في نهاية المساء، تذهب لتضع رأسك على وسادتك، وتنظر بوجه الله، سائلاً، هل كان ضميرك مرتاحًا".

فكّر بعض البشر كيف يجمعون أموالاً وثروةً، وغابت عنهم بأن الثروة الحقيقيّة هي مخافة الله، وزاد الآخرة، وهناك من بنى البيوت الضخمة، وغابت عنهم بأن الرحابة تكمن في داخل الإنسان، وليس بحجم الدار. كان يؤمن والدي بما سبق، رافضًا أشكال الظّلم، ويناصر الفقير، ويشعر مع الذين حلّت بهم مصيبة، وأصعب امتحان كان يقف فيه، عندما كان المتخاصمون يقولون له: "أنت المحكِّم".

إن ما ميّز المرحوم حسن إصغائه للضّيف، لا يتسرع بأجوبته، ويتكلّم حين يستوجب الكلام. كان إذا التقى طفلاً سأله عن اسمه الكامل، وعندما كنّا نسأله عن سر سؤاله، كان يقول: "سيأتي يومًا لن نعرف أحدًا". 

الأخلاق والتربية تحتاجان لتربة خصبة، وعشرون عامًا والرّسائل هي الرّسائل، والرّجال بكل معاني الكلمة، عددها يتقلّص، وتَضيع الرّؤية والطّريق، لكن الحياة تتلخّص بكلمات واضحة، بأن من وُكِّل بحمل الرّسالة، عليه أن يحملها حتّى النّهاية، والإنسانيّة تبقى أثمن ما أهداه وأودعه الله في قلوبنا. 

قد تكون صورة ‏شخص واحد‏