[x] اغلاق
من ماضي عبلّين الجميل نُقوشٌ في رحيل :الدكتور جودت حاجّ طبيب القرية
23/4/2022 13:27

زهرةٌ من ماضي عبلّين الجميل

نُقوشٌ في رحيل : الدكتور جودت حاجّ طبيب القرية

سمير حاجّ سفيرُ عبلين الأوّل في جامعات إيطاليا لدراسة الطب ، يرحل فُجاءةً تاركًا غَصّاتٍ وحسراتٍ حَرّى . لكن هيَ الحياةُ ! قاموسُها مبدوءٌ ومختومٌ " وكانَ صباحُ وكانَ مساءُ " . ناموسُها ودَيدنُها لا يرحمُ ، وقد وصفَهُ الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيديُّ : وقَبْلكَ داوى المريضَ الطبيبُ / فعاشَ المريضُ وماتَ الطبيبُ بدأ الطبُ في عبلين ، بالخرّيج الأوّل من كلية الطب في الجامعة العبرية في القدس عام 1962 ، الدكتور رشيد سليم ، الذي افتتح عيادته الخاصة في مدينة الناصرة عام 1967 ، ثمّ الدكتور جودت سابا حاجّ ، حكيم القرية بتوصيف أهلها ولغتنا المحكية ، والذي افتتح أوّل عيادة عبلّينية في سبعينيات القرن الماضي ، بعد أن اغترب ودرس في إيطاليا . الدكتور جودت اسم نبسَتْ به الشفاهُ وردّدتهُ الألسنُ ، في عبلّين أواسط السبعينيات ، حينَ كان الطب حُلمًا بعيد المنال عن عالم قريتنا . الدكتور جودت ذاك الطبيب المُغتربُ والعائدُ ليفتتح َ العيادةَ العبلّينيّة الأولى في القرية ، كي يُطبّبَ و " يُحَكّمَ " أهليها ، حين كانت عبلّينُ بغالبيتها فلّاحين ، حيث كانت تفرغُ من ساكنيها كلَّ صيف ، فالناس " تعزب ُ " أو " تُغرّبُ "، لتقيم َ في "عزبتها " سهلها . وكان سهل عبلين يكتسي ويميسُ بنبتة الخيار ، حلته الحريرية الخضراء ، التي شكّلت هوية عبلّين وماركتها . هذه النبتة المُباركة ، كانت نسغ الحياة ومصدر معيشةٍ ، وصندوق دعم وتمويلٍ لتعليم أبناء القرية وللبناء والعمران فيها . هكذا كانت عبلين السبعينيات ، سهولًا خضراء تعجّ بالحركة مثل خلية النحل ، يجتمع وينحني الرجال والنساءُ والأبناءُ والبناتُ ، والفلّاحُ المحترفُ والمعلّمُ والموظّفُ والطالبُ والكاهنُ والشيخُ ، حول المعبودة نبتة الخيار صباحَ مساءَ ، وكانت البشاشة والبساطة تملأ قلوب الناس. أن تخرجَ طبيبًا آنذاك ، من أسرة فلّاحين في قرية صغيرة ومجتمع فلاحيّ بامتياز، هو إنجازٌ مُشرّفٌ وهامٌ ووسام عبلّينيٌ وضيءٌ . لم تكنْ عبلّينُ الماضي كما اليوم ، مغمورة ومغبوطة بمئات الأكاديميين والأطبّاء ، مفخرة مجتمعنا . كُنّا نفلحُ حَقلًا بجانب حقل أهله في مطلع السبعينيات ، حين كنت تلميذًا في المدرسة الابتدائية ونقيم ُ في " العزبة " السهل منذ بداية كل صيف ٍ ، أثناء فترة الامتحانات السنوية ، وكنت آنذاك أنظرُ مبهورًا للدكتور جودت الطالب الجامعيّ ، وهو يأتي فرصة الصيف ، ليزور الأهل وليساعدهم في موسم قطف الخيار ، حين كان الري بطريقة الأثلام . الدكتور جودت من روّاد الجيش الأبيض ، الذين عبَّدوا الطريق إلى الالتحاق بجامعات خارج البلاد في زمن ولا أقسى ! بعدهُ توالت أسرابُ سفراء عبلّين في دراسة الطب في إيطاليا والخارج . ريادةٌ حقّة ، أن تُسافرَ خارجَ البلاد وحيدًا في أواسط الستينيات، على ظهر سفينةٍ ، للدراسة في إيطاليا ، وتقيم هناك سنوات ، وعبلّينُ بعدُ تستضيءُ ب " لامبة " القنديل الألمانيّ و " اللوكس " ، وقنوات الاتصال الوحيدة مع العالم الخارجيّ هي " البوسطة " بالمكتوب والبرقية ، والفلاحة هي مصدر المعيشة ، ليس حدثًا عاديًا ! إنّها مُغامرة أسطورية ومُجازفة قاسية وريادة كبيرة لا يُمكن تصوّرها . فالغربة قاسية ومُرّة ، وكما وصفها الكاتب الفلسطينيُ التلحميُّ جبرا إبراهيم جبرا " أوجع اللعنات " . ريادة الدكتور جودت مفخرة عبلّينية ، ستبقى منقوشةً في سِفر عبلّين وتاريخها وذاكرة أجيالها . بدأ الدكتور جودت مسيرته حين كان الطبيب " حكيمًا " في مجتمعه ، وموضع َ احترام ٍ وقداسة ، لكونه عملة نادرة آنذاك . في بداية مُزاولته الطب ، كان الطبيب إنسانًا لا جهازًا ، يجسُّ بنصّاتته ، ويعاينُ الداء ويكتبُ " الروشيتة " بخط يده الطلسميّ . وكانَ يُصغي للمريض بتؤدةٍ ، ويجيب عن تساؤلاته بتروٍّ، بحيثُ تسيل كلماته بلسمًا ومرهمًا للشفاء... قبل الانتقال إلى زمن التكنولوجبا ، والصندوقة المُحوسبة و" الطب السريع "، واستبدال اسم المريض برقمٍ تُساعيّ ، عدا الحواجز المؤدية إلى الطبيب.. كان الوقت للمريض. . وكان الاحترام للطبيب ...وكان حديث بينهما . من خٍصال الدكتور جودت احترام الناس ، وخدمة عُوّاده من المرضى بإخلاص ، وحبّ المساعدة والاجتماعيات والهدوء . كان بتواضعه لا يتردّدُ في الظرف الطارئ ، في القدوم إلى بيت المريض ومعالجته هناك ، وكان لا يتركه حتى يطمئن على سلامته . لقد أدّى رسالته بتواضع وإخلاص ، وقدّمَ مِثالًا رائعًا للطبيب الإنسان . وهذه المآثر هي تاجُ الطب ورحيقُ النجاح في هذه الرسالة السامية . ترتقي الأممُ بهؤلاء الناس خميرة المجتمع وأُساةِ جراحه . الطيّبون لا يرحلون ! والطبيبُ الإنسانُ لا يُنسى ! تبقى ذكرُاهُ منقوشةً في تلافيف الذاكرة وسفر الحياة . وسيبقى الدكتور جودت مفخرةً عبلّينيّة تتضوّع ذكراهُ إنسانيةً ومحبةً.