[x] اغلاق
لذكرى رحيل الخالة الفاضلة وردة فريد در – عزّام (أم زاهر) وردة النّقـاء فـي جنَّة البقـاء
23/6/2022 14:16

لذكرى رحيل الخالة الفاضلة

وردة فريد در – عزّام (أم زاهر)

وردة النّقـاء فـي جنَّة البقـاء

بقلم: مارون سامي عزّام

غطّى ضباب الحزن مجال رؤيتنا، ولم نعُد نرى أفظع من هذا الحدث المستغرَب، ارتاعت الحارة من سماع خبر رحيل أم زاهر، فاضت دموع الأسى، الحسرة واللوعة على ضفّتَي المفاجأة والذّهول. غافلتني شهقة الفراق غير المتوقّعة، لرحيل خالتي وردة في ذلك النهار المبارك، هذا دليل على شدّة إيمانها بالرّب وتقرّبها الرّوحي اليومي منه، خاشعةً لمجد السَّيِّد المسيح، من خلال متابعتها الدّؤوبة لبث الصلوات. قدَّمتْ أم زاهر التضحيات الإنسانيّة الجمّة منذ أيّام شبابها، بحيث لا يمكن لأي شخص في العائلة ألّا يقف عندها في حياته، فهي محطّات شخصيّة جدًّا، لم تتحدّث بها، لإدراكها أنّ العائلة دوّنتها في مذكِّرات ذاكرتها. رافَقَتها سِمَة التضحيات طيلة حياتها، فكانت الحاضنة لأسرة نجلها البروفِسور زاهر، ضمَّت أولاده تحت كنفَي مسئوليّتها والتزامها، ظلَّلتْهُم بظلال رأفتها وتفانيها وعطائها. يا جدَّة عائلتنا، لقد كنتِ صديقة أبناء البروفِسور، فبادلوكِ صِدقهم، كنت رفيقتهم فأرفقوا بكِ رفقًا حقيقيًّا، قدَّروا وما زالوا يُقدِّرون صنيعَكِ معهم، بوجودكِ لم يشعروا بنقصٍ أو تقصير بأي واجب أسَري أو يومي، سواء تجاههم أو تجاه البروفِسور، الذي بذّل كلَّ جهد طّبيّ وعلاجيّ، لتبقى صحتك يا أم زاهر حارسكِ الشّخصي، من أجل أن تُكمِلي دورة فرحتكِ بزواج حفيدتكِ وردة، التي افتَتَحْتِها يا خالتي بعزم قبل فترة وجيزة. ابنتاكِ دالية ودينا، كانتَا شَريكتان معك في ورشة فعّالياتكِ اليوميّة التي لم تتوقّف للحظة واحدة، قدّمتَا لك دون تواني كل ما يلزمكِ من واجبات، بعد أن كنتِ ذات يوم فارسة النّشاط الممتطية جواد همَّتكِ، قدّمتِ لابنتَيكِ لؤلؤة التربية الصّالحة التي لن تفقد بريقها، وستظَل تُشِع عليهما تعاضدًا أَخَويًّا وتضحيّة في سبيل بعضهما البعض، لتعيشَا حياة خالية من عثرات الزّمن وتحدّيات الأيّام، متمثِّلَتين بك وبخالتهما. عشتِ يا أم زاهر مع شقيقتكِ الصغرى أم كميل، أمّي كتوأمتَين، حياة فيها شراكة قلّ نظيرها... تبادلتما الوفاء، وضربتما مثالاً يُحتذى به في العيش الهانئ مع بعض ولبعض، للحفاظ على تلاحُم الأسرَتَين طيلة سبعين عامًا وأكثر... لقد تشابكت طريقة عيشكما عند العديد من مَفارق الأُلفة والسّعادة والظُّروف، عرفتما أدق التّفاصيل الشّخصية عن بعض، من أجل البقاء في حيِّز وحدَة الحال، ارتبطتما بحبل المصير الواحد، لم تبخلَا على بعض بالعطف والحنان، انصهرتما كجسدٍ واحدٍ، لدرجة أنّكما في صغركما رفضتما أن تكُونَا في صف منفصل، أثناء أيّام الدّراسة. ترَكتِنا بلمح البصر، فلم نعُد نُبصِر وجودك الجميل بيننا، خطفتِ منّا متعة حضورك الصّباحي إلى بيتنا، فلم نعُد نخطف منك الابتسامة التي بشَّرَتنا بسلامك الدّاخلي. كان حديثي الصّباحي معكِ يشدّني إلى مواضيع ومطارح حياتيّة عديدة... علاقتي بكِ لم تكُن مجرّد علاقة الخالة، فبالنسبة لي كنتِ أمي الثّانية، كم رعيتِني في صغري، قدّمتِ لي وجبات الأمومة دون كَلَل، كبرتُ، وتقديري العظيم لمجهودك تعاظَم يومًا إثرَ يوم. كم حاولتْ الشّيخوخة أن تتطاول على حيويتك، لكنّك تحدّيتِها بقوة... تعاليت عليها بجبروتك... واستطعتِ أيضًا بقدرتك العجيبة أن تخبِّئي آلامك ومعاناتك في كهف سرِّكِ، دون أن تتأفّفي أو تتأوّهي. تميَّزتْ علاقتك مع عائلتي الصّغيرة بالمودَّة والإخلاص. لن أنسى بالمرّة أنّكِ ميَّزتِنا بمعاملة خاصّة، كُنّا نستقبلك كأنّنا نستقبل صديقة عزيزة، وليس امرأة بالغة في السّن، دفنتِ هذا الشّعور في أعماق عمركِ، انصهرتِ بقوّة في حياتنا، تعايشتِ مع تفاصيلنا اليوميّة، كم لجأتِ إلينا تطلبين أي غرض، فكنّا نلبّيكِ حالًا، لأنّكِ اعتبرتِنا مثل أولادك، واعتبرتكِ زوجتي أختًا وأمًّا لها ولابني. الذّكاء الفطري الذي تمتّعَت به الرّاحلة، جعلها تتأقلم بسرعة مع عالم الإنترنت وما تبِعه من تطوّرات، فاندمجتْ بسرعة مع هذا العصر، وكانت تملأ وقت فراغها بحثًا عن المعلومات التي تُغْني فِكرها واهتماماتها، إلى أن أصبحت سيّدة معرفيّة، وفي حال حصول خللٍ ما في الإنترنت، كانت تلجأ إليّ حالًا لأحل لها المشكلة، واعتبرتني خبير صيانة عالمها الافتراضي، الذي قرّبها أيضًا من أقاربها المتواجدين خارج البلاد. كان شغفك للأطفال ملعب رعايتكِ الخاص، عانقتِهم برحابة صدر، من خلالهم استرجعتِ عشقكِ للطفولة... لهفتكِ على أحفادكِ حرّكت بداخلكِ يوميًّا حراك القلق عليهم، فكانوا يقدّمون لكِ فروض الطّاعة... تناوبوا على حمايتك... حرِصُوا على راحتكِ... تعاملوا معكِ يا أم زاهر برُوح شبابيّة، فتحتِ لهم المجال أن يعيشوا برفقتك أجمل أيّامهم. الرّاحلة أحبّت التواصل الدّائم مع النّاس والأصدقاء، فرَشَت لهُم عند باب منزلها سجّاد التّرحاب، معتبَرة بيتها مصيف راحتها، ومنتجع متعتها، الذي أطلّ على باحة تفاؤلها. الجميع تنعَّم بكرمها، كرّموا ضيافتها، أحبّوا استقبالها المنعِش لوجودهم، رغم مرورها الليلي بنفق العلاج المنزلي المرهِق. أحبّت أم زاهر نور الصّباح، مشرّعة يوميًّا نوافذ منزلها لشعاع الأمل. لقد وطَّدَت علاقاتها الاجتماعيّة مع الجميع، وتحديدًا مع أبناء الطّائفة المعروفيّة، فتقاسموا معها أرغفة الجيرة الحسنة، تعاملت معهم بوقار كبير، اكتسَبَت هذا الموروث من زوجها، رجل المجتمع الرّاحل، العم شفيق عزّام. إلى الآن ما زلنا مشدوهين من هذا الرّحيل، لفَّها الموت بستاره بسرعة... نرفض أن نصدّق أن القدر قد انتزع ريادتها من قائمة مُحِبّي الحياة... انتزع بقيّة سنِي عمرها من لائحة انتظارها إضاءة أنوار الفرح الآتي، وسلّمها بسرعة للآخرة. رحيلها ترك فراغًا كبيرًا، ولكنّها كانت دائمًا مستعدّة للتّسليم بمشيئة الله، فهي ستبقى ابنة الكنيسة البارّة، ستظل راهبة الإيمان اللابسة رداء التّقوى، الجالسة الآن في أحضان الملكوت.