[x] اغلاق
الشاعر الأديب: وهيب نديم وهبة (من مسرحة القصيدة العربية - المجنون والبحر) الْحلقةُ التّاسعةُ:
11/10/2022 14:19
الشاعر الأديب: وهيب نديم وهبة

(من مسرحة القصيدة العربية - المجنون والبحر)

الْحلقةُ التّاسعةُ:

تسلّقَ الْمجنونُ أغصانَ الْفرحِ والصّباحُ تفاحةٌ:

نصفُها – هالةُ، ونصفُها – كرةٌ ذهبيّةٌ فوقَ الرّمالِ.

دحرجَها الْمجنونُ حتّى الشّاطئِ،

والْفرحُ يراقصُ الْمجنونَ كالْخيالِ.

 

عثرَ – بعدَ رحيلِ الصّيادينَ عندَ الْفجرِ –

على بعضِ الْأطعمةِ، وبعضِ شباكِ الصّيدِ وصنّارةٍ.

عانقَ الْمجنونُ الشّبكةَ، سلاحَ الصّيدِ.

الْموتُ. الرّزقُ. الْقتلُ. الْخيرُ. الْجوعُ.

 

قالَ الْمجنونُ وهوَ يتّجهُ نحوَ الصّخرةِ الْمغروزةِ،

في أوّلِ الْبحرِ: "همْ يقتلونَ الْأسماكَ!"

تركَتْ هالةُ الْخيمةَ. كانَ التّعبُ يبدو واضحًا،

بعدَ ليلٍ طويلٍ في إعادةِ بناءِ الْخيمةِ.

هالةُ: "صباحُ الْخيرِ سيّدي."

"صباحُ الْحياةِ"

أعادَ الْمجنونُ الصّباحَ، منْ بعيدٍ.

 

هالةُ: "سوفَ نأكلُ سمكًا هذا النّهارَ."

الْمجنونُ: "سوفَ نقتلُ، أفضلَ وأكبرَ سمكةٍ.

لكِ أنْ تفرحي."

 

تقتربُ هالةُ، حتّى تلامسَ الْمجنونَ الْجالسَ

فوقَ الصّخرةِ.

 

الْمجنونُ يمسكُ الصّنّارةَ، يضعُ الطّعمَ،

يتأمّلُ، ينتظرُ، وهالةُ تنتظرُ. تستغربُ – 

"لماذا يتوقّفُ! لماذا لا يرمي الصّنّارةَ

في الْماءِ؟"

يقولُ الْمجنونُ والصّنّارةُ معلّقةٌ في الْهواءِ:

"سوفَ يأتي السّمكُ إلى الطّعمِ، وهو جائعٌ،

يريدُ أنْ يأكلَ... وأنا أريدُ أنْ يموتَ!

مَنْ منّا سوفَ يقتلُ الْآخرَ؟!

أنتِ لا تعرفينَ، يا هالةُ.

أقولُ لكِ بمنتهى الْاختصارِ:

الْأكثرُ فنّا، وعلما وحضارةً."

 

ويرمي خيطَ الصّنّارةِ إلى الْبحرِ.

 

هالةُ: "أنا جائعةٌ."

الْمجنونُ: "والسّمكُ جائعٌ."

هالةُ: "سوفَ يأكلُ الطّعمَ."

الْمجنونُ: "ويموتُ. وأنتِ جائعةٌ،

سوفَ تأكلينَ السّمكةَ وتعيشينَ."

 

هالةُ: "وأنتَ، ألا تأكلُ؟"

الْمجنونُ: "أنا لا أحبُّ السّمكَ الْمقتولَ ولا الْعصافيرَ الميّتةَ،

ولا الْحمامَ الْمذبوحَ ولا الْفراشاتِ الّتي تعلقُ في شباكِ الْأطفالِ،

ولا الْأسماكَ الّتي تعلقُ في شباكِ الصّيّادينَ."

 

تركَتْ هالةُ الْمجنونَ فوقَ صخرةِ الصّيدِ،

وعادَتْ إلى الْخيمةِ.

 

الْمجنونُ يغيّرُ الْمكانَ، يبدّلُ قليلًا

تلكَ الصّخرةَ بتلكَ الصّخرةِ...

وأغصانَ الْفرحِ بقميصِ الْحزنِ،

ربّما هناكَ!

ربّما في ذاتِ الْمكانِ مكاني.

لوْ جاءَ الشّخصُ الْآخرُ،

ربّما يصيدُ، بقليلٍ منَ الْحظِّ.

وأنا... هذا الْعمرُ الْمغلقُ، على الْحظِّ

الْعاثرِ، صديقي الْبحرُ – هذا الْعمرُ،

أحملهُ معي مِنْ صخرةٍ... إلى صخرةٍ،

ومِنْ جدارٍ إلى جدارٍ.

 

انكسرَ رأسي وظهري، تحطّمَتْ أيّامي...

وأنا أبحثُ في سراجِ الضّوْءِ الْمعلّقِ عنْ إنسانٍ

يسكنُ الْأيمانَ في ظلماتِ النّفسِ نورًا.

وأنتَ، صديقي الْبحرُ، كما أنتَ،

كما كنْتَ رائعًا، وعنيفًا، ورقيقًا وجبّارًا...

صديقي الْبحرُ الْجبّارُ، بكلِّ هذا الْكبرياءِ

وهذا الْحبِّ النّاعمِ. هلْ تحزنُ إنْ رحلْتُ؟

 

هالةُ تُنادي الْمجنونَ: "تعالَ."

الْمجنونُ: "ولا سمكةٌ."

 

هالةُ: "لقدْ أعددْتُ الطّعامَ، كنْتُ أعرفُ،

سوفَ ينتهي النّهارُ وأنْتَ هناكَ... وتعودُ

كما ذهبْتَ."

 

يجمعُ الْمجنونُ أدواتِ الصّيدَ. الشّبكةُ خاليةٌ!

الصّنّارةُ... تعودُ لتنامَ في الصّندوقِ على راحةِ الْبالِ.

 

يجلسُ الْمجنونُ أمامَ الطّعامِ ويضحكُ.

"مَنْ منّا يقتلُ الْآخرَ! هنا على هذهِ الْأرضِ

وفي هذا الْعالمِ، يا هالةُ،

هناكَ منْ يملكُ مهنةَ الْقتلِ...

وهناكَ منْ يملكُ مهنةَ الْحبِّ...

ومنْ يملكُ مهنةَ الْحبِّ لا يقتلُ!"

 

هالةُ: "لماذا لا تأكلُ؟ 

بعدَ قليلٍ تسقطُ الشّمسُ في الْبحرِ."

 

الْمجنونُ: "والْعالمُ يسقطُ...

يسقطُ في الرّذيلةِ...  

والْكلُّ يتحدّثُ عنِ الْأخلاقِ."