[x] اغلاق
رحيل آخر وجهٍ للسّوق القديم
16/2/2023 8:57

رحيل آخر وجهٍ للسّوق القديم

بقلم: زايد صالح خنيفس

 

رحل عنّا يوم الأربعاء أحد رموز السوق القديم في شفاعمرو، قبل عقدٍ من الزّمن خصصت للعم داهود جمّال، أبي غسّان أثناء عملي الصحفي زيارة خاصة في دكّانه الصغير، الذي عمل فيه حذّاءً، والواقع في وسط البلدة القديمة، القريب من كنيسة القدّيسَين بطرس وبولس والجامع القديم والكنيس اليهودي، ليس بعيدًا عن قلعة ظاهر العمر زيداني، فهنا كان قلب البلد النّابض لسنوات طويلة، وهنا بقيت حكايات الأهل محفورة على كل حجر وقوس بناء قديم.

العديد من الزملاء الصحفيين كتبوا عن قصة الراحل، تطرّقوا إلى فصول حياته قبل حدوث النكبة، حيث تعود جذور العائلة إلى الربوع اللبنانيّة، وعمل أجداده بمهن عديدة. تميّز حديثه معي بدقة التفاصيل، كأنه كان يرسم في مخيلته شجرة العائلة التي انحدرت من الجنوب اللبناني، وكانت كنية العائلة تُعرَف بآل كنعان إلى أن تبدّل اسم العائلة حسب المهن، ودخل إلى فلسطين جدّه الياس، لتبدأ هنا فصول عائلة بحثت عن لقمة عيشها.

أثناء لقائي مع المرحوم أكّد لي أن بداية عمله في السوق القديم، كانت عام 1951، وقد سبقه والده إلى مهنة تصليح الأحذية، ولم تنسَ العائلة فلاحة أرضها التي زُرعت بالزيتون والقمح والشعير... لن أنسى عندما حدّثني المرحوم عن علاقة والده بجدي المرحوم الشيخ حسن خنيفس، فهنا وفي الحي القديم والحارة الشرقيّة، تجلّت أواصر العلاقة بين أبناء البلد الواحد، والشيء الذي بقي محفورًا بذاكرتي من تلك الزيارة الخاصة، عندما سألته: "ألا تشعر بأنك صرت وحيدًا في السّوق؟ هل تحمل أملًا بأن يعود إلى سابق عهده؟، أجابني مبتسمًا بهدوء: "الذي ذهب لن يعود".

عندما ألححت عليه بالسؤال قائلًا له: "لكنك هنا وحيد"، فأجاب: "البقاء هنا أفضل من البقاء في المنزل". كانت الزيارة الخاصّة إلى دكان أبي غسان في مثل هذه الأيام الماطرة، تسمع هدير مزاريب المياه تتدفّق من سطوح المنازل القديمة، وقطط تقفز فوق الجدران. 

أبو غسان سيبقى الوجه الأخير للسوق القديم، إذ كان يحمل سرًّا لم يقله لأحد، وربما في زيارتي له قبل عشر سنوات وأكثر، فهمت سر بقائه فيه وحيدًا، فقد كان يحفظ بذاكرته شريطًا تاريخيًّا أثريًّا، لا يستطيع أن يمحوه أحدًا، وكان على أمل أن تعود وتُفتح أبواب الحوانيت، وتأتي عروس من إحدى القرى، باحثة عن بدلة عرسها، وعن سيدة حملت بيت ذراعيها ببورًا لتصلحه، وفلاحًا ركب حماره ليبيع حبوب زرعه، وسرب شبان اتّجهوا نحو الحلّاق. 

أذكر جواب الراحل على سؤالي: "لماذا لا تختار قضاء وقتك في بيت المسن"، كان جوابه سريعًا: "هنا في دكّاني أستنشق رائحة أهلي وأيام جميلة خلت، وضجة أصحاب الحوانيت وأسراب آتية والسوق بالنسبة لأبي غسان، كان ورشة حياته التي لم يستغنِ عنها يومًا. 

رحيل أبو غسان إلى الأخدار السماويّة هو قدر كل شخص أتى زائرًا لهذه الدنيا، لكن أبو غسان يجب أن يُبقي فينا رسالة بأن من لا ماضي له لا مستقبل له، والسوق كان قلب المدينة، فهنا وجه بلد جميل وفحوى الرسالة يحتاج لمن يفهم كُنه مضمونها.        

May be an image of 1 person and indoor