[x] اغلاق
سيبقى حنيني للحارة التحتة
23/2/2023 8:50

سيبقى حنيني للحارة "التحتة"

بقلم: زايد صالح خنيفس

ما أقسى تلك الذكريات التي تصحبكَ إلى أزقة قديمة، فتستعيد من خلالها لحظات الطفولة البريئة، وما أصعب تلك اللحظات عندما تفقد عزيزًة كانت ترسم في الأيام الخوالي مدخل بيت وحارة، ولكن سرعان ما تكتشف بأن العزيزة قد رحلت فجأة، ولن تتكرّر حلقات جمعتكَ مع الأقارب والأهل.

في منتصف الأسبوع فقدتُ امرأة خالي التي سكنت حارة "العنّازيّة"، أو كما سمّاها البعض "الحارة التحتة"، وهنا على بُعد أمتار اتسعت الدائرة لحارات أخرى، منها حارة "المكتب" الغربية وحارة "الهوارة". إن رحيل الفاضلة في هذا الزمن هو خسارة، والفراغ لم يعُد يملأه أبناء اليوم، فالأهل في الزمن الماضي تعلّموا كيف يعيشون حياة البساطة الممتدة من تربية عرفت تقدير تلك القيم، لتكُون نهج حياة.

رحيل صور الذاكرة من حارة قديمة أمر في غاية الصعوبة، فهنا في ساحة الدار جلست جدّتي تراقب المارين نحو الحارات الأخرى، طارحين السلام بأدب، وعلى العتبة المقابلة جلست مسنة تصنع طبقًا من القش، ترسم في دوائره أشكالًا تزيده جمالًا، وكان يُعلّق الطبق على صدر البيت، البعض استخدمه لتقديم الطعام التقليدي، وهنا صاحت جدتي على أطفال اعتلوا على كومة من القمح، سنابله أينعت في أرضنا الطيبة، وفي الزوايا أكياس مليئة تنتظر لتأخذ طريقها لمطحنة البلد.

قرص دوّار الشمس يعرف اتجاه نسائم السهل، يرقص على أصوات الفلّاحين القادمين من بعيد، وعبّاد الشمس يعشق اصفراره، فهنا كان مرتعنا في صبا الشقاء واللهو، نركض خلف الجرّار الزراعي، ومن فوقنا تُحلّق الطيور باحثة عن طعامها في التربة الخصبة، كان للثمر نكهته المميزة، تشتاق لتذوّقه في كل حين.

فقدان الكبير في هذا الزمان أصبح مأساة ووجوه زمن الماضي لا تشبه وجوه اليوم، فالشقاء وشظف العيش صنعَا رجالًا أشدّاء ونساءً فاضلات قديرات، في أظافرهن نام التراب في أحضان تعبهنّ، حلمن بيوم جديد مشرق بالفرح، دون أن يتأفّفن من معيشتهنّ التي باتت ملهاتهن اليومية.

الزمن الجميل لن يتكرّر، وفقدان أعزّة سيترك فراغًا إنسانيًّا وإن بنى الناس بينهم جسورًا من المحبّة والمودّة والتعاطف، إلّا أنها اليوم باتت جسورًا ورقية وهمية، تمزّقها ظروف العصر، فمهما كان شقاء الماضي قاسيًا إلّا أنه كان حِملًا يُحتمل، ومن قال بأن الزمان تغير فهو مخطئ، بل إن أخلاق الناس تبدّلت والقيم انهارت، وقرص دوّار الشمس لم يعُد قرصًا من الماضي، لأن الأيادي التي تزرعه اليوم، لم يخرج من مساماتها عرق الحنين.

لكِ الرحمة أيتها الفاضلة فإنّك سنبلة العطاء المنحنية وفاءً، وستبقين ذاكرة الحارة التي تضج بالذكريات، وكومة القمح والأكياس المركونة في الزوايا، والجرّار على موعد مع أرض اشتاقت لشمسها، وطيور رسمت أسرابها وإن غبتِ أيتها الفاضلة، فعودتكِ قريبة لحارة قد نعرف اسمها ذات يوم.