[x] اغلاق
لذكرى رحيل داهود أمين جمّال (أبو غسّان) أَفَلَ ضُوء قنديل الذكريات
28/2/2023 8:41

لذكرى رحيل داهود أمين جمّال (أبو غسّان)

أَفَلَ ضُوء قنديل الذكريات 

بقلم: مَارون سَامي عَزّام

الأيّام التي نعيشها تدوُر فينا في فَلَك العمر دون توقّف، فنرى من خلالها تناثُر اللحظات بعيدًا عنّا... نرى خُبُوّ نجوم السّنين الواحدة تلو الأخرى، ويتعذّر علينا استعادتها أو استرجاع أجمل أحداثها، وانطفأ معها نجم العم الفاضل أبو غسّان الذي تألّق بذاكرةٍ متّقدَة بأدق التفاصيل، أشعّت ذكرياتٍ جميلةً عاشها آباؤنا، رواها الرّاحل للجيل الجديد بكل رحابة صدر من مكان عمله في قلب السّوق القديم الذي يُعتبَر جزءًا من تاريخ شفاعمرو.

السّوق القديم المهجور والمنسي كان نبض البلدة ومركز حياتها اليوميّ، ببقاء أبي غسّان فيه أصبح نبضه الأخير، فعاش معه وكبُر بين حوانيته، حفِظَ أزقّته الضّيِّقة، أصبح وجوده علامة فارقة، وشكَّل مركزًا حيويًّا هامًّا لتوثيق تاريخ السّوق، بات محطّة استراحة لأشخاص يريدون الاستماع لأحداث عايشها أجدادهم، والاستمتاع بطريقه سرده المشوّقة التي كانت تخرج من فمه مثل الرّاوي.

كان صفاء ذهن أبو غسّان سِجِلًا لتاريخ عائلته، استعان بذاكرة اشتياقه لتلك الحقبة، استطاع أن يخلق رباطًا وثيقًا مع الماضي الذي بقيَ حاضنًا له طيلة حياته، مُعتزًّا بأحداثه وشخصيّاته كثيرًا، كما اعتز الرّاحل بأسرته، فجَمَعَ أبناؤه حول نبع عطائه، كذلك هُم اجتمعوا حول موقد حنانه الذي توهّج لهفةً عليهم، استمدّوا منه دفء الأبوّة. 

لقد قدّم أبو غسّان برفقة زوجته الصّابرة رشيدة، أم غسّان الكثير من التضحيات في سبيل إسعاد أحفادهما. كانت الفاضلة أم غسّان رشيدة التفكير، وراشدة التَصرُّف... جعلها المرحوم مسبحة عمره التي قَدَّر قيمتها الإنسانيّة ولم يُفرِّط بها يومًا، لم يَقْدِر الزّمن أن يسرقها منه، لأنها رفيقة سعادته الدائمة، كما كان هو رفيقًا مُخلصًا لواجباتها الأسريّة قبل الاجتماعيّة.

أبو غسّان ما لا يعرفه الكثيرون أنه رجُل الوفاء الحقيقيّ، وبالأخص لحياته الاجتماعية، كوفائه التّام لمذكِّراته، حافظ على الحقوق التقليديّة للعلاقة التاريخيّة التي ربطته بأسرتنا من خلال صون "الشَشْبَنة" طيلة خمسين عامًا وأكثَر... فكلّما التقى به واحدًا من أفراد أسرتنا أو التقى صُدفةً بأحد المقرّبين منّا، لم ينادِهِ المرحوم باسمه بل كان يناديه "بإشبيني"، أو "شبيني" باللغة العاميّة وبادلوه بالمثل وإلى الآن يتبادلون اللقب مع أبنائه.

كانت زياراته هو وزوجته إلى منزل أهلي عديدة لم تنقطع يومًا، حتّى بعد وفاة والدي استمرّت هذه العلاقة الوطيدة بين الأسرتين دون أن تتوقّف سواء من أبي غسّان أو من أبنائه الذين اكتسبوا منه هذا الوفاء ليس فقط الاجتماعي بل أقول أكثر من ذلك الوفاء الأُسَري منقطع النّظير، فهذه السّمة المميّزة نادرة الوجود اليوم، هذا دليل تقدير المرحوم لمكانة أسرتنا الخاصّة لديه، فلذلك اعتزازه وتمسّكه الشّديدَين بلقب "شبيني"، جعلته الأسرتين تقليد المناداة الأحب إليها، لا ولن يتنازلوا عنه، لأنه قَسَم الإخلاص للرّاحل. 

في الأفراح والمناسبات الاجتماعيّة كان منزل الرّاحل مَزارًا للخيرات، فكنتُ أجد ولائم الكرم ممتدّة، فرَشَت لنا أسرته سجّاد الاستقبال الرّحب بالمحبّة والود الحقيقيَّين، اللذَين انعكسَا أيضًا خلال علاقة المرحوم مع أهل شفاعمرو من كل الطّوائف التي كرَّمت احترامه لتاريخ بلدته ولعلاقاته الشخصيّة مع كل فردٍ فيها، تفاعلوا مع موروث ذاكرة الرّاحل التراثيّة التوثيقيّة. رحل أبو غسّان، إنّما ذِكره الطَّيِّب يدوم إلى الأبد، لأن مسيرة كرامته هي بصمة فخر على جبين شفاعمرو، لتُحيي ذكراه العطِرَة الحاضرة في الوجدان الشّعبي.    

May be an image of 1 person