[x] اغلاق
المقدمة السرمدية مفاتيح السماء - مسرحة القصيدة العربية
15/6/2023 17:24

المقدَّمة / هذهِ السّرمديّةُ

المقدمة السرمدية "مفاتيح السماء - مسرحة القصيدة العربية"

بمناسبة معرض – الرباط / المغرب

 

المقدَّمة / هذهِ السّرمديّةُ 

بقلمِ: نايف فايز خوري

 

وَصَفْتُها بِالسَّرمَدِيَّةِ لأنّي لمْ أجِدْ كَلِمَةً تَتَجاوَزُ حَجمَ السَّردِيَّةِ إلاَّ السَّرْمَدِيَّةَ، وهذا يَدُلُّ على أبَدِيَّةِ القِيمَةِ الرَّائِعَةِ. رُبَّما هي حَالَةُ هُيامٍ في الْغَمَامِ غَيرِ الْمُتناهِي، وَلِذا كُنْتُ أرغَبُ في الْمَزيدِ وَالْمَزِيدِ مِنْ هذا الشِّعرِ وَأكثرَ. هذا الانطِلاقُ عَبرَ الدُّهورِ وَالسَّماواتِ، عَبْرَ الْأرواحِ وَالنُّفوسِ وَالْأجسادِ، لقدْ أثَرْتَ في القارئ جَشَعًا وَطَمَعًا وَوَلَعًا لِيَطلُبَ الْمَزِيدَ مِن هذا الْمُمتِعِ. وَلذا أجرُؤُ عَلى الْقَولِ إنَّ الْمَنفَعَةَ الأَكثَرَ في مِثلِ هذهِ الْحالاتِ تَدعُو إلى الزِّيادَةِ وَالتَّنَوُعِ فِي طَرْحِ الْقَضَايَا الْفِكْرِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ.

 

وَإذا أخَذْنَا عَلى سَبِيلِ المِثَالِ لا الحَصْرِ مَسْألَةَ الأَدَبياتِ الدِّيِنِيِةِ، أوِ الأدَبِيَّاتِ الرُّوحِيَةِ فَإنّها تَظْهَرُ بِشُمُولِيّتِها وَاحتِوائِها لِلْفِكرَةِ الْمَطرُوحَةِ بِحَيثُ تُشبِعُ الْقَارِئَ، وَتُمَتِّعُ كَافّةَ حَواسِّهِ وَأحَاسِيسِهِ. وأنتَ طَلَعْتَ عَلَيْنا هُنَا بِحَلاوَةٍ على طَرفِ اللِّسَانِ فقطْ. فَزِدْنا أكثرَ وَأكثرَ.

 

تَذَكَّرتُ لأوَّلِ وَهْلَةٍ جُبرانَ في نَبِيِّهِ!! وَلكِنْ سَرعَانَ ما اقتَنَعْتُ بِأنَّ جُبرانَ وسِواهُ مِن عُظَمَاءِ الأَدَبِ والْفِكرِ مَا كانُوا لِيَخْجَلوا مِن نَصٍّ سَرمَديٍّ كهذا. أولًا لأنَّ الْحَديثَ عَنِ السَّيدِ الْمَسيحِ، وَثانِيًا عَنِ السَّيدَةِ الْعَذرَاء، وَثالِثًا عَنِ الْفِكرِ الْمَسيحِيِّ، وَرَابِعًا عَنِ الْعَقيدَةِ اللّاهُوتِيَّةِ. وَلَيسَتْ قَضِيَّةُ الْعُمْقِ الرُّوحِيِّ مَحصُورَةً بِعَدَدِ الصَّفحَاتِ أوِ الْكَلِمَاتِ، وَلا بِالإسْهَابِ وَالشَّطَطِ، بَلْ بِاحتِواءٍ عَمِيقٍ للشَّخصِيَّاتِ الْفَاعِلَةِ في هذهِ السَّاحَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْفَسيحَةِ. وَكذلكَ مَدى تَطَوُّرِهَا وَتَفاعُلِهَا، وَانْطِلاقِهَا وَانْفِتَاحِهَا. وَلِذا تَأتِي الْحاجَةُ الْمُلِحَّةُ إلى فَرْضِ الْجَوانِبِ الْأخرى مِنْ هذهِ الشَّخصِياتِ.

 

لَقَدْ أَخَذْتَني إلى مُحِيطَاتِ الْفِكْرِ السَّمَاويِّ، وَعَزَّزْتَ فِي رُوحِي تَعظِيمَ الْقِدِّيسينَ وَالْمُقَدَّسِينَ. أثَرْتَ في عَاطِفَتِي حُبًّا أكثرَ لِلسَّماوِيينَ. وَمَا مِنْ شَكٍّ بِأنَّ بُلُوغَ الْقِمَمِ الرُّوحِيَّةِ هِي السَّمَاءُ التِي يَرْجُوهَا كُلُّ إنْسَانٍ. وَيَعْلَمُ كُلُّ لاهُوتِيٍ بِأنَّ السَّمَاءَ لَيسَتْ مَكانًا مُحَدَّدًا فِي هذا الْعَالَمِ لِيَذْهَبَ إليهِ الصَّالِحُونَ، كَمَا أنَّ جَهَنَّمَ أوِ الْجَحِيمَ ليْسَتْ مَكَانًا فِي هذا الْكَونِ لِيَذْهَبَ إليهِ الأشْرَارُ الطّالحون، بَلْ كُلٌّ مِنهُمَا حَالَةٌ.. حَالَةٌ مِنَ الدُّنُوِ أو الابْتِعَادِ عَنِ الذَّاتِ الإلهِيَّةِ.. وَالسَّعَادَةُ كُلُّهُا تَكتَمِلُ في السَّمَاءِ أَيْ بِاقتِرابِنا أكثرَ مَا يُمكِنُ مِنَ اللهِ، وَالتَّعاسَةُ والْحُزنُ والْألَمُ يَتمَثَّلُ كُلُّهُ بِالابتِعادِ عَنِ الذَّاتِ الإلهِيَّةِ وَعَدَمِ الْحَيَاةِ في كَنَفِ اللهِ. وَيَصِفُ الْقِدِّيسُ يُوحَنَّا السِّينَائِي (عَاشَ في سِينَاء) أو السُّلَّمِيِّ في كِتَابِهِ "سُلَّم الْفَضَائِلِ" أو "سُلَّم الْفِردَوسِ" كَيفَ يُمْكِنُ بُلوغُ حَالَةِ النِّعْمَةِ الْقُصوَى وَالاكتِمَالِ مَعَ اللهِ بِمُمَارَسَةِ دَرَجَاتِ الفَضَائِلِ الْمُختَلِفَةِ. وَمِنْ أهَمِّ هذهِ الْفَضَائِلِ قولُهُ: مَنِ اقْتَنَى الْمَحَبّةَ أقْصَى الْحِقدَ.

 

انتَقَلْتَ بي مَا بَينَ طَبَريَّا، النَّاصِرَةِ، الِقُدسِ، بَيتَ لَحمَ وَغَيرِهَا مِنْ مُدُنِ الْمَسِيحِ، سِرْتُ مَعَكَ على تُرابِ وَطَنِ الْعُظَمَاءِ والْقِدِّيسينَ، تَنشَّقْنَا مِنْ هَوائِهِم، شَرِبْنَا مِنْ مِيَاهِهِم، تَغذَّينَا مِنْ غِذائِهِم.. فَكَمْ يَجْدُرُ بِنا أن نَعرِفَ قِيمَةَ بِلادِنِا، وَطَبِيعَتَهَا وَشَجَرَهَا ودُرُوبَهَا وَكُلَّ مَا فيها. وَهذا يُفضِي بِنا إلى الْحَدِيثِ عَنْ هذا الْيَسُوعِ، هذهِ الْمَريَمِ، وَغَيرِهِمَا مِن الْقِدِّيسينَ، إنَّهُمَا كائِنَانِ، عَاشَا حَيَاتَهُمَا مِثلَمَا نَعيشُهَا نَحْنُ، وَرُبَّمَا بِصُعُوبَةٍ أكثرَ. وغَلَبَ عَليهِمَا الْفَقْرُ وَالذُّلُّ وَاحتِمَالُ الإسَاءَةِ وَالْهوَانِ، حَتّى أنَّ يَسوعَ مَرَّ بِثلاثِ حَالاتٍ مِنْ أحقَرِ وأسوَأِ وأحَطِّ مَا يُمكِنُ أنْ يَمُرَّ بِهِ أيُّ إنسَانٍ، وَأُولى هذِهِ الْحَالاتِ كَانَتْ في مَولِدِهِ، فما أحقَرَ الْوِلادَةَ في مِذوَدٍ لِلحَيوَاناتِ، لا في مَشفًى ولا في مَكانٍ لائِقٍ. وَثَانيهَا غَسْلُهُ أرْجُلَ تَلامِيذِهِ وَتَقبِيلُها، وَهذا عَمَلٌ يَخجَلُ حَتّى الْعَبيدُ أنْ يَقومُوا بهِ لأسيَادِهِم، وَلكنَّهُ فَعَلَ ذلكَ بِمَحْضِ إرادَتِهِ وَرَغبَتِهِ وحُرِّيَّتِهِ، جَاعِلًا نَفسَهُ مِثالا يُحتَذى فِي التَّواضُعِ وَاحتِمَالِ الْهوانِ. وَثَالِثُها صَلْبُهُ، لأنَّ الصَّليبَ عَارٌ وَإهَانَةٌ وَحَقَارَةٌ لِلمَصْلُوبِ. وَكَانَ الْمَصْلُوبُ يُعْتَبَرُ مَلعُونًا، فَجَاءَ يَسُوعُ لِيُصْلَبَ وَيَمْحُوَ عَارَ الصَّلبِ وَلَعْنَتِهِ. وَأمَّا إكْلِيلُ الشَّوكِ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ الْمُعَذِّبُونَ تَاجَ الْمُلكِ، وَكانوا يُقَرِّعُونَهُ قائِلينَ سَلامٌ يَا مَلِكَ اليَهُودِ، وَكَتَبوا فَوقَ رَأسِهِ عَلى الصَّلِيبِ: "يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ اليَهُودِ". مَا مِنْ حَقَارَةٍ وَلَعنَةٍ أعظَمَ مِنْ هذِهِ. عَدا عَنِ الْألَمِ وَالدَّمِ الّذي نَزَفَ مِنْهُ وَلا يَحتَمِلُهُ أيُّ إنسَانٍ. 

 

لَم يَتَنَاقَضْ كَلامُكَ مَعَ أيِّ فِقْرَةٍ مِنَ الإنْجِيلِ الْمُقًدَّسِ، بَلْ أضَفْتَ ضَوْءًا عَاطِفيًّا وَشُعُورًا تَكرِيمِيًّا لِكَيْ يَتَنَبَّهَ الْقَارِئُ إلى كُلِّ كَلِمَةٍ قَالَهَا يَسُوعُ، وَإلى كُلِّ حَرفٍ وَنُقطَةٍ. وَكُلُّ إنسَانٍ ضَعِيفٍ وَفَقيرٍ وَمُتَألَّمٍ، وَكُلُّ إنسَانٍ عَادِيٍّ يَجِبُ أن يَرَى يَسُوعَ فِي رُوحِهِ، لأنّ أقوَالَهُ وَأعمَالَهُ كَانَت مُوَجَّهَةً إلى مَثلِ هَؤلاءِ، وَقَالَ فِي مُنَاسَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ إنّ الطَّبِيبَ لا يَأتِي إلى الأصِّحَّاءِ بَلْ إلى الْمَرضَى. وَكُلُّنَا مَرضَى بِشَكْلٍ مَا، إنْ كَانَتْ أمْرَاضُنَا جَسَدِيَّةً وَظَاهِرَةً لِلعَينِ، وَإنْ كانَت نَفسِيَّةً وَرُوحِيَّةً وَبَاطِنِيَّةً وَمَخْفِيَّةً. وَأوضَحَ لَنا الآبَاءُ الْقِدّيسُونَ فِي أكثَرَ مِنْ مَكَانٍ وَأكثرَ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أنَّهُ عَلى الإنسَانِ أنْ يَنظُرَ إلى اللهِ فِي أعمَاقِهِ، في رُوحِهِ وَنَفسِهِ، وَأنَّ اللهَ في الْقُلُوبِ وَليسَ في ذلكَ الْمَكانِ الْمَدعُوِّ سَمَاءً لأنَّ السَّمَاءَ ليسَتْ مَكانًا، إنَّهُ لَيسَ هُنَاك بَلْ في أروَاحِنَا وَقُلوبِنَا، وَعَلى الإنسَانِ، بِمُوجِبِ تَعَاليمِ الْمَسِيحِ، أنْ يَعتَبِرَ نَفسَهُ مُقَدَّسًا فَيَحتَرِمَ رُوحَهُ وَيُكرِمَ نَفسَهُ مِنْ خِلالِ أقوَالِهِ وَأعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ وَحَيَاتِهِ الّتي يَجِبُ أنْ يَعِيشَهَا بِوعْيٍ تَامٍّ بأنَّ اللهَ كَامِنٌ في رُوحِهِ، فَلا يُدَنِّسُهُ بَأعمَالِ الشَّرِّ وَلا بَأقوَالِ السُّوءِ. وَإذَا رَاجَعْنَا مَوعِظَةَ يَسُوعَ عَلى الْجَبَلِ فِي إنجِيلِ مَتَّى، نُدرِكُ أنَّ الإنسَانَ يَجِبُ أنْ يُحافِظَ على رُوحِ اللهِ الْكَامِنَةِ في أحشَائِهِ، فَهذِهِ هِيَ السَّمَاءُ الّتي يَجِبُ أَن نَصُونَ طَهَارَتَهَا وَنَقَاءَهَا لأَنَّهَا مَسكِنُ الله. وَيَدنُو الإنسَانُ أَكثرَ بِأعمَالِ الْخَيرِ، لِئَلا يَطرُدَ اللهَ مِنْ نَفسِهِ وَيَبتَعِدَ عَنْهُ بِأعمَالِ الشَّرِّ. وَالإنسانُ إذا فَعَلَ خَيرًا فَهوَ مَلاكٌ وإذا فَعَلَ شَرًّا فَهوَ شَيطَانٌ. فَالشَّرُّ هُو انعِدَامُ الْخَيرِ، كَمَا أنَّ الظَّلامَ هو انعِدامُ النُّورِ، وَكَمَا أنَّ الصَّمتَ هوَ انعِدَامُ الصَّوتِ. وَيَتَحَدَّثُ يَسُوعُ عَنْ أهَمِّ طَرِيقَةٍ لِبُلُوغِ هذا الاتِّحَادِ بِاللهِ، وَهيَ طَريقُ الْمَحَبَّةِ. وَقَالَ بِهذا الصَّدَدِ مَا وَرَدَ في إنجِيلِ لُوقا: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُم، وَأًحْسِنُوا إِلى مُبْغِضِيكُم، وَبَارِكُوا لاعِنِيكُم.. فَإِنْ أَحْبَبْتُم مَنْ يُحِبُّكُم فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الْخَاطِئِينَ أَنْفُسَهُم يُحِبُّونَ مَنْ يُحِبُّهُم.." وَيَقُولُ الْقِدِّيسُ بُولُسُ في رِسَالَتِهِ الأُولَى إلى أهْلِ كُورِنثُس (اليونان) عَنِ الْمَحَبَّةِ: "إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ. وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئًا. وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا. الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لا تَتَفَاخَرُ وَلاَ تَنْتَفِخُ وَلا تُقَبِّحُ وَلا تَطلُبُ مَا لِنَفْسِهَا وَلا تَحْتَدُّ وَلا تَظُنُّ السُّوءَ وَلا تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيءٍ وَتَرجُو كُلَّ شَيءٍ وَتَصبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لا تَسْقُطُ أَبَدًا. أَمَّا الآنَ فَيَثْبُتُ الإِيمَانُ وَالرَّجَاءُ وَالْمَحَبَّةُ هَذِهِ الثَّلاَثَةُ وَلكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ الْمَحَبَّةُ". 

 

فَإذا أحبَبْتَ لَنْ يَصدُرَ عَنكَ شَرٌّ، وَإذا أحَبَّ الْجَمِيعُ بَعضُهُم بَعضًا فَلَنْ يَصدُرَ الشَّرُّ أبَدًا وَلَن يَبقَى لَهُ وُجُودٌ. وَهَكَذا نُصبِحُ في حَالَةِ النَّعِيمِ، السَّمَاءِ، الخَيرِ، المِثَالِيَّةِ، الْخُلُودِ وَسَائِرِ القِيَمِ الْمُطلَقَةِ. هذِهِ خُلاصَةُ الْمَسِيحِيَّةِ. 

 

أمَّا الصُّوفِيُّ، فَقدْ جَاءَتْ شَخصِيَّتُهُ عَلى عِدَّةِ أَدوَارٍ وَأَبعَادٍ، لأنَّهُ لَعِبَ دَورَ الرَّاوِي، وَدَورَ الشَّاعِرِ، وَدَورَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الّذي بَشَّرَ بِالْمَسِيحِ وَمَهَّدَ لهُ الطَّرِيقَ، وَدَورَ كُلِّ مَنْ يَنظُرُ إلى وَاقِعِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَيَرصُدُ أعْمَالَ الْخَيرِ فِيهِ وَيُمَيِّزُهَا عَنِ الشَّرِّ. إنَّهُ شَخْصِيَّةُ الْمِيزانِ الّذي تُحْسَبُ عَليهِ مَعَايِيِرُ الْفَضِيلَةِ وَالْخَيرِ، وَالطُّمُوحِ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَبُلوغِ الأَهْدَافِ السَّامِيَةِ الّتِي يَصبُو إليهَا كُلُّ إنسَانٍ. وَحَتّى أنِّي رَأيْتُهُ كَظاهِرَةِ الْمَطْهَرِ التي يَدخُلُهَا الْمُؤْمِنُ لكَيْ يُكَفِّرَ عنْ ذُنُوبٍ طَفِيفَةٍ وَيَعيشَ بَعدَهُ في حَالَةِ النَّعِيمِ أوِ السَّمَاءِ، وَهذا لأنَّهُ يَسألُ وَيَستَفْسِرُ وَيَتَقَصَّى الْحَقَائِقَ لِيُدرِكَ كُنْهَ الأمُورِ وَيَألَفَها. 

وَأمَّا سَرَيَانُ الأَفكَارِ وَتَدَفُّقُهَا، فَقَدِ ازْدَحَمَتْ فِي الْكَلِمَاتِ الّتِي لا تَعرِفُ الشَّبَعَ، وَلا الارتِوَاءَ. وَجَاءَ دَورُ مَريَمَ الرِّيادِيُّ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ مُنذُ قَولِهَا "نَعَم" لِلمَلاكِ، وَحَتّى الْوِلادَةِ وَالهِجْرَةِ وَالتَّنشِئَةِ، وَمُرَافَقَتِهِ إِلى الصَّلِيبِ.. فَأَيُّ أُمٍّ تَحتَمِلُ رُؤيَةَ ابنِهَا مُعَلّقًا عَلى الصَّلِيبِ؟ وَأَكثَرُ مَا أدهَشَهَا مَعَ النِّسوَةِ اللَّوَاتِي أَتَيْنَ الْقَبْرَ بَاكِرًا هوَ عثورهنَّ على الْحَجَرِ مُدَحْرَجًا عَنْ بَابِ الْقَبْرِ.. إنَّهَا قُشَعْرِيرَةُ السَّمَاءِ فِي جَسَدِ الأرْضِ.. وَالنَّبَأُ الّذي هَزَّ أَركَانَ الْخَلِيقَةِ، وَزَعزَعَ أساسَ الأَرضِ بِأَنَّهُ قَامَ.. حَقًا قَام. 

 

هذِهِ السَّرمَدِيَّةُ سَوفَ تُثِيرُ غُبَارَ الأفكَارِ، وَتَعصُرُ أَدمِغَةَ البَشَرِ، وَتُنِيرُ لَهُم طَرِيقَ الْعَظَمَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّضْحِيَةِ وَالسَّلامِ.. وَمَا أَعظَمَ أنْ تَتَّخِذَ الْمَسِيحِيَّةُ مِنْ عَلامَةِ الإِهَانَةِ وَالعَارِ شِعَارًا وَرَمْزًا لِلافتِخَارِ وَالاعْتِزَازِ. وَمَا أعظَمَ أنْ يَرَى الإِنسَانُ فِي هَذا اليَسُوعِ وَهَذِهِ الْمَريَمِ صُورَتَهُ الْمُجَرَّدةَ التِّي لا تَذْبُلُ وَلا تَسقُطُ، بَلْ تَدُومُ أبَدًا وَتَبقَى سَرمَدًا رَاسِخًا فِي الرُّوحِ وَالْجَسَدِ. وَكَمَا أَنَّ يَسُوعَ بَدَأَ كَلِمَةً وَقَالَ إنَّهُ الْكَلِمَةُ الّتي سَتَبقَى خَالِدَةً فِينَا، سَرْمَدِيّةً.. مُنطَلَقُهَا الحُبُّ قَولًا وَفِعلًا.. فَأَحِبُّوا بَعْضكُم بَعضًا.. وَأنَا أُحِبُّكُم..