[x] اغلاق
عربدة رياح الخريف
4/10/2023 7:59

عربدة رياح الخريف 

بقلم: مارون سامي عزّام

بدأت شُرطة الرّياح تَصفُر بقوَّة في أحياء مدينتي، تُحذّر العشّاق المنتظرين هبوب نسمات اشتياق من فتياتهم، بأن يُغلقوا نوافذ بيوتهم... ما زالت الرّياح تحوم حول منازل الفتيات، تحاصرها بسُخطها، مراقبةً لحظة إطلالتهنّ من خلف سِتار الآمال كي تَعتَقل تسَكُّع نظراتِهن في ميدان التّأمّل، لتُذكّرَهن أن هذا الوقت ليس للعواطف والهَيام.

لقد ارتعدت أغصان الأشجار من سماع عواء الرّياح، اجتاحتها من أجل أن تعرّيها من أوراقها، ولكنّها بقيَت متمَسّكةً بالأغصان بكلِّ قوّتها كتَمسُّك الطفل بأمِّه، طالبةً مِنَ الرّياح أن ترحمَها قليلًا، ولكنّها أبت، إلى أن تطايرت الأوراق مذعورة عن الأشجار... اشتدّت حِدّة الرّياح وصارت تُنكِّل بالأغصان بكل قوّتها لتلقِّنها درسًا لن تنساه! محاولة كَسْرَها، لأنها لم تنصَع لتحذيرات عرّافي أحوال الطّقس!!  

طال جنون الرّياح أشجار الزّيتون، فارتعبت حبّات الزيتون من صفيرها الجنوني، ولم تقوَ على الصّمود في وجهها، فسقط منها الكثير مفترشةً الأرض خائرَةً. حجبت الغيوم نور الشّمس لبرهةٍ مِنَ الزّمن، لكنّ أشعّتَها كانت تُطلُّ من خلفها بين حين وآخر، متابعةً هجرة الطيور التي شدّت رحالها إلى أوطان الدّفء بعد أن لسعها البرد. في هذه الأثناء كان تعسُّف الرّياح يقودُ ببطءٍ قطيعَ الغيوم الرّماديّة والسّوداء المثقلة بمياه الأمطار. 

تأثّرت الغيوم باستعطاف أشجار الزّيتون وراحت نحوها تترقرق، لترويَ ظمأَها وتَغسِلَ عنها الغبار حتى غدت نظيفة نضرةً. استعدّ الناس للمَهَمَّة الموسميّة الإلزاميّة، فجاءوا مع عائلاتهم إلى كرومهم ليجنوا موسم الزّيتون بفرحٍ عارم، مجهَّزين بلوازم القطاف. 

فرشوا الكبار والصغار فِراش الاستمتاع الجماعي تحت ظلال التاريخ، ملتقطة أياديهم حبّات الزيتون، مُطلِقين صيحات سعادتهم بالتقليد العريق المتجدّد، فعبّئوها في أكياس تعبهم، وهُم مجتمعون على أرض رزقهم الثّمينة. 

أخذ أصحاب الكروم أكياسهم إلى معصرة الخير منتظرين مجيء دورهم... إلى أن أزف، أُفْرِغَت أكياسهم في فوهة المعصرة، وخلال لحظات بدأ زخم الزّيت يسيل، وامتلأت دنانهم بالزيت المبارك، مردّدين قولهم المعهود: "عشنا وذُقْنا خير السّنة والحمد لله".