البطريرك غريغوريوس لحام يتفادى حقل ألغام مراسل الشرق الأوسط بحنكة وحكمة 30/1/2012 10:49
البطريرك غريغوريوس لحام يتفادى حقل ألغام مراسل "الشرق الأوسط" بحنكة وحكمة
زياد شليوط
أجرى مراسل صحيفة "الشرق الأوسط" في القاهرة مقابلة مع غبطة البطريرك غريغوريوس لحام، بطريرك الروم الكاثوليك في الشرق أثناء تواجده في القاهرة، ومن المعروف أن غبطته سوري الأصل ويقيم في سوريا حاليا مركز البطريركية، وكان قبل ذلك مطرانا في مدينة القدس. ومن المعروف أيضا أن صحيفة "الشرق الأوسط" التي تصدر من لندن هي سعودية الملكية والتوجهات والسياسة المعروفة والمعادية للقومية العربية واليسار العربي والعالمي، وبالتالي فهي تتخذ موقفا معاديا من النظام السوري وقائده بشار الأسد وليس غريبا وبناء على سياستها المشبوهة في تحالفها مع الولايات المتحدة والدول المعادية للعروبة، أن تؤيد المعارضة السورية التي بدأت تتضح توجهاتها السياسية التي تخدم الأجندة الغربية بالأساس.
قرأت تلك المقابلة على موقع "أبونا"، ليس حبا في توجهات "الشرق الأوسط" فهي معروفة ومكشوفة لي، انما من أجل الاطلاع على رأي صاحب الغبطة وخاصة في هذه الظروف الحرجة التي يمر فيها الوطن السوري، ولأتعرف على صوت أحد رؤساء الكنائس الهامة في سوريا. وخلال قراءتي للمقابلة وخاصة للأسئلة التي طرحها المراسل هالني مدى الحقد الذي يكنه المراسل للنظام السوري، وهذا شأنه، لكن ما أقلقني وأثارني محاولاته المتكررة والبائسة في جر غبطة البطريرك لاعلان موقف يهاجم أو ينتقد فيه النظام ويؤيد بالتالي المعارضة، وأقل ما يقال في هذه المحاولة أنها رخيصة ودنيئة، أن يقوم صحفي وبحجة اللقاء الصحفي بمحاولة الايقاع برجل دين له مكانته الرفيعة في الكنيسة الكاثوليكية وفي المشرق بأسره، فهو معروف على نطاق الوطن العربي ولكلمته وقع كبير، ولو نجحت محاولات المراسل البائسة لا سمح الله، لكان جلب ليس فقط الاحراج انما الاهانة لغبطة البطريرك. لكن بحنكته وبحكمته التي عهدناها وبصبره وأناته استطاع غبطته الالتفاف على نوايا المراسل الدنيئة، وبردوده المتأنية وذات البعد الفكري والديني استطاع تقديم أوضح صورة عن موقف الكنيسة الراسخ والثابت، تجاه حركات الاحتجاج السورية خاصة وما يسمى "الربيع العربي" عامة.
وكي لا نترك الأمور للكلام العام والنظري، فاني أورد بعض النماذج التي تبين الأسلوب الخبيث والموجه في صياغة وطرح الأسئلة لغبطته، وكشف مدى نوايا المراسل الخبيثة من ورائها، والاستشهاد بجملة أو أكثر من اجابة غبطته –حيث يصعب اقتباس الاجابة كاملة هنا- والتي تظهر من خلالها حنكته ودرايته.
ونبدأ مع السؤال الثاني من اللقاء، حيث يطرح مراسل "الشرق الأوسط" سؤالا موجها، يضع فيه على لسان النظام السوري كلاما مشكوكا في مصداقيته في أول محاولة للايقاع بغبطته، ولنقرأ السؤال جيدا:
هناك من ذهب إلى القول بأن المشاركة المسيحية في الانتفاضة ضد النظام السوري ضعيفة جدا، وأن النظام يلوح بتجربة العراق لكم كي يخمد أي جذوة للمشاركة في الأحداث، ما دقة هذه المقولة؟
ولننتبه لكلام غبطته الواضح والذي يتجنب فيه الانزلاق نحو مصيدة المراسل الذي يظن نفسه حذقا، حيث يقول غبطته: "أما عن الخوف فهو مشهد عام وليس قصرا على المسيحيين، الخوف من القتل والترويع والدمار الذي نشهده في مدن كثيرة من سوريا، والخوف الأشد من الفوضى، وهذا هو وجه المقارنة مع العراق- أي الخوف من انتشار الفوضى في سوريا كما في جرى في العراق." فالقتل لا يقوم به النظام كما أراد المراسل أن يسمع، لأن عمليات القتل تتم من أكثر من طرف كما أوضح غبطته، ومن هنا الخوف من تكرار التجربة العراقية في سوريا، وهذا ما بات يعرفه القاصي والداني.
ولما فشل المراسل في انتزاع تصريح كما يرغب من غبطته، انتقل لأسلوب آخر وهو المساواة بين النظام والمعارضة في محاولة خبيثة جديدة للايقاع بغبطته واقرأوا هذا السؤال: هل طلب منكم النظام أو الجماعات المعارضة تفعيل حضوركم في أي وقت من الأحداث؟
والمراسل يجتهد هنا في الحصول على تصريح من غبطته يطعن ليس بالمعارضة انما بالنظام، ومرة أخرى يفشل في مسعاه نظرا للرد الحكيم لغبطة البطريرك الذي قال:" لم يحدث هذا بالمطلق من أي جانب، لم أر أو أسمع أي محاولة إقحام سواء من الدولة أو من المتظاهرين للمسيحيين في الأحداث."
وينتقل المراسل للسؤال عن وجود نشيطين مسيحيين في صفوف المعارضة، واغفال حقيقة وجود أضعاف أضعافهم من الناشطين المسيحيين سياسيا واعلاميا وثقافيا واجتماعيا وفنيا، من الداعمين للنظام وتوجهاته الوطنية والقومية، ويسأل المراسل عن شخصين مشبوهين ويعتبرهما من الرموز المسيحية السورية وهما ميشيل كيلو وفايز سارة!
ولا يكتفي المراسل بكل ذلك وأمام فشله المتتالي ينتقل لدق الأسافين بين أصحاب الغبطة، حيث يوجه سؤالا حول تصريحات غبطة البطريك الماروني مار بشارة الراعي، وما أثارته من غضب في الغرب، وبدل أن يكون سؤاله عن ذلك يربط تلك التصريحات مرة أخرى بالنظام السوري، ولننتبه كيف يبدأ المراسل سؤاله بادعاء وجود خلاف في المواقف:
يختلف موقفكم كثيرا عن المشهد اللبناني حيث أعطى البطريرك الماروني في تصريحاته في فرنسا انطباعا بارتهان الوجود المسيحي في سوريا وربما في لبنان بوجود نظام الأسد، لماذا؟
ورغم نغمة الاستفزاز في سؤال المراسل إلا أن غبطة البطريرك يرد بهدوء: "لا يمكن أن ترتهن أنت كمسيحي إلى أي نظام مهما كان، قلت ذلك دون أي إشارة لأي نظام لا في سوريا ولا في العراق ولا في مصر ولا ليبيا، أنا كمسيحي وكبطريرك مستعد للعيش وأن أدعو المسيحيين لأن يعيشوا مع كل نظام ومع أي توجه ولا يجوز أبدا أن نرتهن للتيارات السياسية أو الفكرية التي تريد أن تستقطب المجتمع، فالمسيحية والمسيح دعوة للحرية والتحرر، وليس للعبودية لشخص أو لنظام."
وكي لا يعتقدنّ أحد أننا نتجنى على المراسل الصحفي، فانه وبعد عجزه عن جر غبطة البطريرك الى نواياه الخبيثة، لم يبق له إلا أن يبق الحصوة ويبين نواياه ورأيه وانحيازه للمعارضة السورية، وما عليكم سوى قراءة السؤال التالي: ما هو موقفكم من المطالبات الثورية الأخيرة التي رفعتها المعارضة السورية عاليا؟
هكذا اذن، باتت مطالب المعارضة السورية "ثورية" وترفعها "عاليا"، ولا ندري مدى "ثورية" الأخ المراسل ومن يقف وراءه من أركان النظام السعودي الملكي "الثوري"! ومرة أخرى يأتي رد غبطة البطريرك لحام بليغا، يرد كيد صاحب السؤال الى نحره ويظهر كم هو صغير حقا أمام قامة غبطته، وكم هو سخيف أمام حكمة غبطته، فجاء الرد القاطع:
"نحن مع مطالب الشعب السوري، وفي رسائلي لأعياد الفصح والميلاد وعيدي الفطر والأضحى أوضحت مطالبات سورية وطنية ربما يتجاوز سقفها المطالب المرفوعة في الميادين السورية الآن."
فالمطالب الثورية الحقة يرفعها الشعب السوري وليس فئة مارقة منه، مشبوهة التوجهات، وهي مطالب وطنية تتجاوز كل الأطراف المتخاصمة، ألا لا فض فوك يا صاحب الغبطة.
لكن وقاحة المراسل لا حدود لها، وبعدما سجل الفشل تلو الفشل، انتقل للتحريض على الفاتيكان ومواقفه الانسانية الواضحة، مدعيا أن الفاتيكان لم يدن ما يجري في سوريا، والتي دلت على جهل المراسل الصحفي وعدم تحضيره لدرسه جيدا.
وفي سؤال آخر، يعود المراسل لابسا ثوب الحمل الذي يخفي داخله ذئبا، ليطلب من غبطته توجيه رسالة للرئيس السوري وليس للمعارضة! لكن غبطته يتدارك المطب ويتوجه برسالة لعموم السوريين مطالبا بايقاف نزيف الدم، ويؤكد رغم شكوك المراسل المقصودة، على أنه يمكن التوصل لحل عن طريق الحوار بنوايا صافية وهذا ما لا يستوعبه مراسل الصحيفة السعودية.
ولأن آخر ما يشغل الحركات التي ركبت الثورات الشبابية العربية، قضية فلسطين والنزاع مع الاسرائيليين، فان المراسل وكي يحفظ ماء الوجه، وجّه سؤالا حول الموضوع في نهاية اللقاء، وجاء رد صاحب الغبطة حكيما وعميقا حيث وضع فيه النقاط المطلوبة على المحك:
" قلت للأميركيين والأوروبيين إذا أردتم أن تحافظوا على الاستقرار المسيحي في الشرق الأوسط أوجدوا حلا للنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، اعترفوا بدولة فلسطين مثل اعترافكم بدولة إسرائيل، أعطوا الفلسطينيين عدلا ومساواة، وإلا فإنه حال بقاء الأزمات سيبقى كل مسيحيي الشرق مرشحين للهجرة وساعتها سيخسر الجميع، مسيحيين ومسلمين أوطانا وشعوبا."
هذه نماذج عينية من المقابلة المذكورة، والتي تدل على الدور المشبوه لبعض وسائل الاعلام، التي لا تتورع عن اللجوء لأساليب رخيصة وغير أخلاقية، في سبيل مقارعة الخصوم ولو على حساب شخصيات رفيعة وبعيدة عن تلك الخلافات والمناكفات. ومن جهة أخرى نرى ونسمع بوضوح وبصوت صاف نقي لا تشوبه شائبة، صوت الكنيسة المسيحية الشرقية حول ما يمر على عالمنا العربي في العام الأخير، هذا الصوت الذي كنا نفتقده وننتظره، لا يترك أي لبس أو غشاوة للمواقف الواضحة لها من خلال صوت غبطة البطريرك لحام كما اطلعنا عليه أيضا في المقابلة المذكورة.
(شفاعمرو/ الجليل)
|