ان تلج عالم محمود درويش الشعري امر ليس سهلا لأنك تصاب بالرهبة وبالتهيب، ذلك لأنه عالم غني واسع متنوع متلون، لا يستقر على مدرج واحد، فهو دائم الاغتناء، دائم التطور، عالم متقافز قفزاته سريعة وواسعة تمتح من الموروث الشعري العربي ومن الشعر المضارع عربيا وعالميا. هذا من جهة، اما من اخرى فان محاصرة هذا العالم الشعري الدافق والمتجدد امر غير ممكن لا بل مستحيل في محاضرات ثلاث فشاعر بقامة محمود درويش بحاجة اذا اردنا حقيقة ان نستكشف شعره وان نتغور مبانيه ومعانيه ولغته وتقنيات قصائده وتجديده وتحولاته، بحاجة الى محاضرات ومحاضرات ولكنها محاولة اولية للوقوف على بعض محاور شعر امير الكلام المعاصر محمود درويش.
في معرض رده على الشاعر ادونيس الذي اتهم في دراسة له بعنوان "الشعر والثورة"، نشرها في مجلة (الهدف) العدد 20 1969 شعر محمود درويش وشعر اخوانه بانه شعر غير ثوري ومحافظ وذلك لأنه شعر يصف حركة المقاومة ويغنيها وليس شعرا يواكب الحركة ويخلق معادلا ثوريا باللغة ويفكك البنية العادية العربية الموروثة، حيث يقول ادونيس: "فان كانت مهمة المقاومة ان تفجر الواقع السياسي/الاقتصادي وتغيره. فان مهمة الشاعر العربي الثوري هي ان يفجر نظام اللغة (الثقافة/القيم السائدة) ويغيره". في رده على ذلك يقول "محمد دكروب" في كتابه "الادب الجديد والثورة" الصادر عن دار الفارابي سنة 1980 "ان كلام ادونيس تصور ذهني ميكانيكي، لا يرى الارتباط العضوي والتأثير المتبادل بين حركة الواقع وحركة الشعر. وكون حركة الشعر والثقافة اجمالا هي شكل نوعي متميز لحركة الواقع ككل، أي هي انعكاس معقد ومتحول في المخيلة والاحساس والدماغ الى شعر وفن وثقافة صادر اساسا عن حركة الواقع نفسه، وعن حركة الصراع الاجتماعي، وحركة الثورة بالتالي. هذا التحول هو الذي يعطي للشعر والفن والفكر اجمالا تلك الصفة النوعية المميزة، فلا تبقى مجرد انعكاس ميكانيكي لحركة الواقع المادي.
بناء على ما تقدم، فان كل شعر حقيقي اصيل هو ثورة داخل حركة الشعر نفسها، هو تجدد دائم الغنى لنظام اللغة ونظام القصيدة (العمل الشعري). وكل انكار تعسفي لحركة التجدد هذه ولضرورتها وللثورة داخل الشعر التي هي تعبير عن ضرورة الحركة يؤدي الى جمود قاتل، الى موقف رجعي، الى مراوحة في المكان، بينما حركة الشعر مستمرة في تجدد دائم، وهكذا لا يكون الفن ثوريا لمجرد ان يحاول الفنان ان يخلق باللغة معادلا فنيا للثورة، بل بمقدار ما يملك هذا المعادل الفني نفسه ان يمارس تأثيره الثوري ولو داخل قسم من جماهير الثورة.
من هنا تنبع اهمية محمود درويش كشاعر، بمعنى من كونه استطاع ان يخلق معادلا فنيا للمقاومة الفلسطينية وللثورة الفلسطينية في شعره، وفي الآن معا ان يمارس هذا المعادل الفني نفسه تأثيره الثوري والا كيف سنفسر عشق الناس لشعر محمود؟! وكيف سنفسر التطور الذي اصابه على مدى خمسة عقود من الزمان.
يقول المفكر الكبير "حسين مروة" في كتابه "الموقف الثوري في الادب منشورات دار الفكر العربي سنة 76 ملخصا نجاح شعر المقاومة، يقول ان نجاح هذا الشعر ينبع من ثلاثة اصول:
1. كونه نابعا من الجماهير، فالشعراء هم ابناء هذه الجماهير فهي ربتهم واعطتهم الجذور.
2. الاندماج والالتحام بين الشاعر وواقعه وسمة هذا الامر الفنية صدق التجربة والاصالة في تصوير صراع الانسان الفلسطيني.
3. الشروط المعرفية أي المنطلق الفكري الثوري الذي يصدر عن هذا الشعر، وينفذ الى الاعماق مؤثثا بالطاقات المتحفزة دائما لصياغة نفسها من جديد بأشكال ومضامين متطورة باستمرار. وهذا المنطلق الفكري عند درويش هو تبصره بالنظرية الثورية. هذه النظرية التي حررت شعره وعالمه الفني من كوابيس الاوهام وجعلته يتخطى ذاته باستمرار بحيث صار محمود درويش ظاهرة شعرية جديدة بمفرده لا فلسطينيا فحسب ولا عربيا فحسب، بل عالميا، وذلك بما تحمله ابداعاته من الطاقة الفائقة لتخطي الذات المستمر سواء باكتشافاته الرؤيوية ام بصياغاته الفنية لهذه الاكتشافات.
تأسيسا على ما تقدم سنحاول ان نلج عالم محمود درويش الشعري على رحابته، وكي نسيّج هذا الحديث ونمنعه من التشظي والتسيب من جهة، وكي نسهل على انفسنا عملية استبطان هذا العالم من اخرى، سنقسم عالم درويش الشعري الى مراحل ثلاث هي:
1. مرحلة الوطن/ الأم، مرحلة شعر المقاومة حتى عام 1969
2. مرحلة المنفى والحصار والمذابح حتى الخروج من بيروت
3. مرحلة نبش الذات حتى وفاته
نبدأ بالمرحلة الاولى ونمثل لها بديوان "عاشق من فلسطين" الصادر عام 1966.
ان اول ما يجابهه قارئ ديوان "عاشق من فلسطين" هو صدق التعبير الفني واخلاص الشاعر في الحديث عن قضيته/قضيتنا أي عن القضية الفلسطينية، لا كقضية فردية متميزة فريدة – وهي كذلك – انما الصدق الفني الذي ينتشل القضية من خصوصياتها ليجعلها قضية عامة يمكن ان يحسها الانسان في أي مكان فوق الارض. وهذا التعبير الفني الصادق يأتي بسيطا وعميقا في آن معا وهذه هي سحريته، شعره في "عاشق من فلسطين" حار متفجر ذو حيوية هائلة، ينتفض (على حد تعبير رجاء النقاش في كتاب "ادباء معاصرون" الصادر عن مكتبة الانجلو مصرية في القاهرة عام 68) ويمتلئ بالرغبة في الحياة والتحرر من المأساة سواء المأساة الشخصية او في واقع مجتمعه. ومذاق هذا الشعر مذاق انساني رحب لاذع. وللحقيقة اقول: ان شعرا كالموصوف معرض للانزلاق والوقوع في براثن الخطابية والنثرية والضوضاء الفنية والكليشيه الجاهز ولكن اصالة محمود كفنان وأصالة ايمانه بقضيته يحميانه من ذلك.
لنسمعه يرد على النغمة التي سادت الادب الاسرائيلي الدعائي حتى ادب الاطفال منه في اواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، تلك النغمة التي تحاول ان تقنع العالم، بان العربي همجي بعيد عن الحضارة وهو انسان من درجة ثانية يقول محمود في قصيدة "نشيد للرجال" من الديون:
"لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قدمي/ من الأشواك/ ان خطاي مثل الشمس/ لا تقوى بدون دمي
لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قلبي/ من القرصان/ ان فؤادي
المعجون كالارض/ نسيم في يد الحب/ وبارود على البغض.
ويستمر قائلا: "لأجمل ضفة نمشي/ فلن نُقهر/ ولن نخسر/ سوى النعش الى الاعلى/ حناجرنا/ الى الاعلى/ محاجرنا/ الى الاعلى/ امانينا/ الى الاعلى اغانينا/ سنصنع من مشانقنا/ ومن صلبان حاضرنا وماضينا/ سلالم للغد الموعود/ ثم نصيح يا رضوان/ افتح بابك الموصود.
ويقول فيها ايضا: "سنطلق من حناجرنا/ من شكوى مراثينا/ قصائد كالنبيذ الحلو/ تُكرع في ملاهينا/ وتنشد في الشوارع/ والمصانع/ في المحاجر/ في المزارع/ في نوادينا.
ويختتم بهذه الصرخة المدويّة الثائرة:
"سنخرج من مخابينا/ ويشتمنا اعادينا: "هلا.. همج هم عرب/ نعم! عرب/ ولا نخجل/ ونعرف كيف نمسك قبضة المنجل/ وكيف يقاوم الأعزل/ ونعرف كيف نبني المصنع العصري والمنزل/ ومستشفى/ ومدرسة/ وقنبلة/ وصاروخا/ وموسيقى/ ونكتب اجمل الاشعار/ عاطفة وافكارا وتنميقا".
بمثل هذه العاطفة المليئة بالتفاؤل والثقة والاستعداد للنضال والصبر على الجراح يواجه درويش واقع المأساة.
ولعل اعذب ما في شعر درويش في هذه المرحلة الرؤية الانسانية الخاصة التي تنعكس على بناء قصائده. فهو يرى الناس والاشياء بطريقة تختلط فيها كل العناصر. ففي قصيدة واحدة نراه يتحدث عن حبيبته، وفي مقطع آخر منها نجد هذه الحبيبة قد تحولت الى معنى مختلف هو الوطن، ثم تنقلب الى الام او الاخت، وهكذا فالحب والوطن والحرية والطبيعة كلها معان تختلط ببعضها البعض، انها ذات ملامح متشابهة فالحدود بينها تلتغي كليا. في شعر محمود نوع من وحدة الوجود، من ذوبان الكل في واحد. هذا الامتزاج الكامل بين الصور والمعاني في رؤية درويش للعالم والذي يتحقق على اجمل صورة في شعره يحدث بعفوية وبصورة شفافة. فقصائده عالم رقيق مشرق، رغم تشابك العناصر والرؤى، لذلك قصائده هنا اشبه بحلم ولكنه ليس حلما رومانسيا هروبيا عاجزا، انما هو فيض مشاعر حية كبيرة تملأ وجدان الانسان وتسيطر عليه. وهذا النوع من الحلم هو الهام وحيوية وقوة واقتراب من النبوة، وتعبير عن الاندماج الكبير في الواقع وفي حركته واندغام بين الانسان وعقله الباطن. هذا الحلم هو الذي يفسر لنا انكسار المنطق العادي في شعره وولادة منطق آخر ينقلنا من اللحظة الراهنة الى مناطق الشدهة والاندهاش. ذلك لأن تجارب الشاعر روحية عامرة تملأ مشاعره فتفيض القصيدة عن وصفها للعادي النثري للظاهرة وتأخذنا الى ما وراء الظواهر وهذا هو الشعر الحقيقي بعينه. لنسمع مقاطع من رائعته "عاشق من فلسطين" للتدليل على ما ذكر. يقول في مطلعها: "عيونك شوكة في القلب/ توجعني واعبدها". ويستمر قائلا بعد هذا المطلع الرائع: "كلامك كان اغنية/ وكنت احاول الانشاد/ ولكن الشقاء أحاط بالشفة الربيعية/ كلامك كالسنونو، طار من بيتي/ فهاجر، باب منزلنا/ وعتبتنا الخريفية/ وراءكِ.. حيث شاء الشوق/ وانكسرت مرايانا فصار الحزن الفيْن/ ولملمنا شظايا الصوت/ لم نتقن سوى مرثية الوطن/ سنزرعها معا في صدر قيثار/ وفوق سطوح نكبتنا، سنعزلها/ لأقمار مشوهة واحجار/ ولكني نسيت يا مجهولة الصوت:/ رحيلك اصدأ القيثار ام صمتي".
ثم يتابع ليشعرنا ان حبيبته هذه ليست فتاة عادية وانما هي فلسطين – يقول: "رأيتك في جبال الشوك/ راعية بلا اغنام/ مطاردة في الاطلال/ وكنت صديقتي/ وانا غريب الدار/ ادق الباب يا قلبي/ على قلبي/ يقوم الباب والشباك والاسمنت والاحجار.
رأيتك في خوابي الماء والقمح/ محطمة/ رأيتك في مقاهي الليل خادمة/ رأيتك في شعاع الدمع والجرح/ وانت الرئة الاخرى بصدري/ انتِ انت الصوت في شفتي وانت الماء، انت النار".
ثم يتابع: "رأيتك عند باب الكهف عند الغار/ معلقة على حبل الغسيل ثياب ايتامك/ رأيتك في الموقد/ في الشوارع/ في الزرائب في دم الشمس/ رأيتك في اغاني اليتم والبؤس. رأيتك ملء البحر والرمل/ وكنت جميلة كالارض كالاطفال كالفل/ واُقسم: من رموش العين سوف اخيط منديلا/ وانقش فوقه شعرا لعينيك/ وإسما حين اسقيه فؤادا ذاب ترتيلا/ يمد عرائش الأيك/ سأكتب جملة اغلى من الشهد، من القبل/ فلسطينية كانت ولم تزل".
هكذا نلاحظ كيف تتلاحم المحبوبة مع الوطن وكيف تختلط العاطفة الخاصة بالوطنية، وكيف يصير الخاص عاما والفرداني جمعا.
ثم يختتم بقوله: "فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ حملتك في دفاتري القديمة/ نار اشعاري/ حملتك زاد اسفاري/ وباسمك صحت في الوديان/ خيول الروم اعرفها/ وان تبدل الميدان/ خذوا حذرا/ من البرق الذي صكته اغنيتي على الصوان/ انا زين الشباب/ وفارس الفرسان/ انا ومحطم الاوثان/ حدود الشام ازرعها/ قصائد تطلق العقبان/ وباسمك صحت بالاعداء/ كلي لحمي اذا ما مت يا ديدان/ فبيض النمل/ لا يلد النسور/ وبيضة الافعى/ يخبئ قشرها ثعبان/ خيول الروم اعرفها وأعرف قبلها اني/ أنا زين الشباب وفارس الفرسان.
هكذا تتفجر المعاني وتتوالد بين يدي محمود درويش ويسرح التضاد وتمرح لغة تلاقي الاضداد وهما من اعمدة الشعر المصفى. ونلتقي في شعر درويش في هذه المرحلة بصور شعبية حميمية لو صاغها آخرون لما اعطتنا شعرا، ولكنها بين يدي محمود تقول ما لم نتعوده منها يعتصرها فنا جميلا مليئا بالسحر والشعر والعذوبة.
وفي هذه المرحلة ايضا نجد عددا من الموتيفات التي يوظفها درويش رموزا وايحاءات في شعره ولكنها جميعا تصب في خانة التلاحم بين الأنا والقضية/ الأنا وفلسطين/ العاطفة والوطنية/ الحب والحرية. كموتيف الاسرة مثلا: الأم، الاب، الاخت. وفي الديوان الذي نحن بصدده نلتقي بقصيدته التي سارت على فم الزمن، وأعني قصيدة الى امي التي يقول فيها: "احن الى خبز امي/ وقهوة امي/ ولمسة امي/ وتكبر فيّ الطفولة يوما على صدرِ يوم/ وأعشق عمري لأني/ اذا متّ/ اخجل من دمع امي".
والأم هنا خير دليل على ما ذُكر، هي الام الشخصية والوطن، هي ام الجميع. ومن الجدير القول: ان معنى الاسرة عند درويش لا يعني الاسرة العائلية المألوفة، انما هي الانتماء، والجذور التي تمده بالصمود وبالتحدي وبالاصرار، والاسرة عنده دائما ممزقة تحاول ان تلتئم. هي اشبه بجثة اوزوريس التي مزقها اشلاء إله الشر (ست) و"ايزيس" الزوجة الوفية الباكية المناضلة تعيد اجزاءها المبعثرة وترد الروح الى الجسد الممزق. وهذا الجسد طبعا هو فلسطين التي لا بد وان تلتئم ويعود ابناؤها وتتحرر.
ثم نلتقي في شعر محمود في هذه المرحلة كثيرا برمز الصليب واستخدامه للصليب كرمز له مبرراته، ففلسطين هي ارض المسيح، ومأساة المسيح اقترنت بالصلب، لذلك الصليب مقترن بفلسطين قديما وحاضرا، من هنا يتخذه الشاعر رمزا ليعبر به عن المأساة الفلسطينية، وهي مأساة معادلة لمأساة الصلب ولتاج الشوك والمسامير في اليدين وفي القدمين، يقول درويش في قصيدة "صدى الغابة": "من غابة الزيتون/ جاء الصدى/ وكنت مصلوبا على النار/ اقول للغربان:/ لا تنهشي/ فربما ارجع للدار/ وربما تشتي السماء ربما/ تطفئ هذا الخشب الضاري/ لانزل يوما عن صليبي/ ترى/ كيف اعود حافيا عاري؟!
ومحمود درويش يرى في المسيحية روحا دينية مقاتلة "ليست صليبية، فتفسيره لها تفسير نضالي فهي في وجدانه دعوة الى التقدم والانفتاح والى النضال والوقوف في وجه الآلام الكبيرة وكما يقول السيد المسيح في انجيل متى "الاصحاح العاشر العدد 34": "لا تظنوا اني جئت لألقي سلاما على الارض ما جئت لألقي سلاما بل سيفا". يقول درويش في احدى قصائده (مع المسيح):
"ألو/ اريد يسوع/ نعم! من انت؟/ انا احكي من اسرائيل وفي قدميّ مسامير واكليل/ من الاشواك احمله/ فأي سبيل/ أختار يا ابن الله أي سبيل؟/ أأكفر بالخلاص الحلو/ أم امشي/ ولو امشي واحتضر؟/ اقول لكم يجيبه السيد المسيح: اماما ايها البشر. وكما يوظف السيد المسيح رمزا يوظف النبي العربي محمدا كذلك فهو يقول في قصيدة "مع محمد": "ألو/ اريد محمد العرب/ نعم! من انت؟/ سجين في بلادي/ بلا ارض/ بلا علم/ بلا بيت/ رموا اهلي الى المنفى/ وجاؤوا يشترون النار من صوتي/ لأخرج من ظلام السجن/ ما افعل؟ ويجيبه الرسول العربي: تحدّ السجن والسجان/ فان حلاوة الايمان/ تذيب مرارة الحنظل.
هذا هو محمود درويش في مرحلته الاولى، شاعر صاغته النكبة وصقلته المأساة التي شرب مرها وذاق معها عذاب الفقر وذل العوز وغاص في مقلاتها. هذا هو محمود الذي ينحاز في كل ما صدر عنه الى فقراء الوطن، والذي تبصّر منذ تفتحه بالرؤية الثورية وتسلح بالفكر الاشتراكي التقدمي، ومتح من الموروث الفلسطيني والعربي والعالمي المنفتح، فولج عالم الشعر واثقا صادقا مخلصا مؤمنا بعدالة قضيته، يعاني ويتحدى ويسجن من اجلها. انه شاعر مأساة. فلسطين همه وهاجسه يوظف لأجلها كل طاقاته الشعرية وكل طاقته الفنية بصور رائعة و"مبنى استعاري" جميل متجدد وموسيقى عذبة دافقة ومفردات انيقة متناغمة منسجمة فيصير العادي بين يديه دهشة يلتحم الأنا بالقضية، وتندغم الذات بالوطن، ويمتزج الخاص بالعام، ويتوحد العدل بالحرية، ولا نهاية للنضال الفلسطيني لأنه عادل حتى التحرر فها هو يقول: "مليون عصفور/ على اغصان قلبي/ يخلق اللحن المقاتل".
كفى محمود درويش هذه المرحلة ليصل الى القمة، ولكنه ليس شاعرا من هؤلاء الذين يتغيون الشهرة ويتربعون على القمم، انما هوطامح الى المزيد فالمزيد وحين سئل مرة ما هي القصيدة الاجمل التي قلتها يوما، قال تلك التي لم اكتبها بعد.