المزابل 27/5/2023 14:12
المزابل بقلم هادي زاهر عندما كنّا أطفالًا صغارًا عانينا من الفقر الشّديد ممّا أرغمنا على الذّهاب إلى مزابل القرية بحثًا عن قطع معدنيّة من النّحاس والالمنيوم لنقوم ببيعها للعم أبو آدم الّذي كان يستقبلنا بترحاب كبير متفهمًا لوضعنا، في حين أنّ إبنه سليم كان يشمئز منّا وأحيانًا يطردنا، ويبدو بأنّ الرّائحة الكريهة الّتي كانت تنبعث من المزابل كانت تعلق في ثيابنا ولعلّ ذلك كان يدفعه إلى طردنا، كنّا نرصد بيت العم أبو آدم وننتظر حتّى يخرج إبنه خوفًا من أن نحظى بقسط كبير من الإهانة لندخل بعدها مسرعين ونقوم بتقديم بضاعتنا إلى العم أبو آدم الّذي كان يزينها ويدفع ثمنها نقدًا ممّا يفرحنا بالغنيمة فنتفرق عائدين إلى بيوتنا عودة الأبطال، كان العم أبو آدم يدفع ثمن قطع النّحاس أكثر ممّا يدفعه ثمن قطع الألمنيوم، كان في القرية أربعة مزابل متقاربة جدًّا وذلك يعود إلى صُغر القرية آنذاك، كانت المنافسة شديدة بيننا على من يجد القطع ليحظى بها أولا وأحيانًا ينشب الشّجار بيننا وتعلو الصّرخات ويتجمّع المارّة كلّ يحاول الحدّ من قوّة الشّجار، وكنّا نقوم بحركات معبّرة عن سرورنا الكبير عندما تكون القطع كثيرة، وكم كنّا نشعر بالغضب وخيبة الأمل حين لا نجد القطع الّتي كنّا نعتقد أن غيرنا سبقنا إلى جمعها. أذكُر إنّه ذات مرّة اثناء البحث لمعت قطعة نحاسيّة بين الخردة فأخذت أشدّ بها لتخرج ولكنّها كانت أثقل من قدرتي على رفعها وبينما كنت أبذل قصارى جهدي لرفعها فلتت من بين يدي وانطلقت في اتّجاه جبيني فتدفّق الدّمّ فصعدت إلى الشّارع وأخد المارّة يتجمّعون حولي وكلّ يريد تقديم المساعدة وكان من بين المارّة أحد الأشخاص ممّن يملكون خبرة في الإسعافات الأوليّة فطلب احضار قطعة قماش ومياه لتنظيف الجرح وكنت حينها بين الصّحوة والسّكرة أسمع كلمات الحمد والشّكر لله سبحانه وتعالى على كون الإصابة كانت بعيدة عن الأعين. كانت هذه الفترة من حياتنا صعبة للغاية ولكنّها كانت تعلّمنا الصّبر والتّحمّل في سبيل تلبية حاجاتنا الأساسية، كما كانت حالة الفقر هذه جزءًا من حياتنا في ذلك الوقت، إلّا أنّه لم ينجح في كسر عزيمتنا ومعنوياتنا وتشويه أحلامنا وطموحاتنا العريضة. واليوم أتذكر كيف كانت القرية قبل خمسين عاماً وكيف تضاعفت أضعاف مضاعفة مما يبعث البِشر في نفسي، أتذكر كم كانت تلك الفترة قاسية، وأقارن بين حياة اليوم وحياة الماضي، كم كنّا نجتهد وأحيانًا كثيرة نعاني كي نحصل على بعض ما نريد، في حين أنّنا اليوم نوفّر لأولادنا كلّ حاجاتهم حتّى قبل أن يحتاجوا إليها.
|